الأرجنتين وسلاحها بين ترهيب لندن وترغيب بكين وواشنطن
موقع قناة الميادين-
محمد منصور:
تبعات الاستراتيجية البريطانية حيال القوات الجوية الأرجنتينية ألحقت أضراراً بالغة بالقدرات العسكرية لبيونس آيرس، التي كانت تمتلك خلال حرب الفوكلاند نحو 240 طائرة عسكرية متنوعة.
ظلّت بيونس آيرس – منذ ثمانينيات القرن الماضي – تدور في فلك البحث عن مصادر مستدامة ونوعية لتسليح جيشها، وخصوصاً بعد انتهاء حربها مع المملكة المتحدة حول جزر الفوكلاند عام 1982، والتي كان من أهم نتائجها وقوف لندن بشكل متشدد ومستمر ضد محاولات الجيش الأرجنتيني تعزيز قوته وتحديث تسليحه.
الموقف البريطاني هذا تقاطع خلال السنوات الأخيرة مع بدء تنافس كل من الولايات المتحدة الأميركية والصين على إيجاد موطئ قدم لهما في الأرجنتين، سواء عبر التعاون العسكري أو الحضور الاقتصادي.
عاد الحديث مؤخراً عن تحديث الجيش الأرجنتيني والعقبات البريطانية المستمرة حياله، بعدما انسحبت الأرجنتين في آذار/مارس الماضي من اتفاقية “لاندمارك” الموقعة بينها وبين المملكة المتحدة عام 2016 بشأن جزر الفوكلاند التي تنازع كلا البلدين على السيادة عليها.
بموجب هذه الاتفاقية، توافق الجانبان على تنحية مسألة النزاع حول السيادة على الجزر جانباً، وتفعيل التعاون بينهما في مجالات اقتصادية وعسكرية مختلفة، مثل الشحن البحري والنفط والصيد، والبدء بإنهاء كل الملفات المتعلقة بالأحداث الميدانية التي صاحبت حرب الفوكلاند، وخصوصاً مصير بعض المفقودين من الجيش الأرجنتيني.
النقطة الأهم التي ارتبطت بهذه الاتفاقية كانت تعديل لندن سياسة تصدير الأسلحة البريطانية للأرجنتين، التي كانت الحكومات البريطانية المتعاقبة في مرحلة ما بعد حرب الفوكلاند قد قامت بتشديدها بشكل كبير، وخصوصاً عام 2012، لكن بعد توقيع هذه الاتفاقية، خففت لندن القيود المفروضة على تقديم الدعم العسكري للجيش الأرجنتيني، وقامت بتدريب عدة دفعات من جنوده وضباطه في الأكاديميات العسكرية البريطانية بين عامي 2018 و2020، ناهيك بموافقتها على بعض الصفقات التسليحية التي أجرتها البحرية وسلاح الجو الأرجنتينيان مع كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وألمانيا.
بطبيعة الحال، كان انسحاب الجيش الأرجنتيني من هذه الاتفاقية نذيراً بعودة لندن إلى موقفها السابق من عمليات تحديث الجيش الأرجنتيني، وبشكل محدد موقفها الثابت منذ حرب الفوكلاند حيال تزود سلاح الجو الأرجنتيني بمقاتلات وقاذفات حديثة، نظراً إلى أن الذاكرة البريطانية تستدعي بين الفينة والأخرى ما تسببت به قاذفات “سوبر أتندارد” الفرنسية الصنع التابعة للبحرية الأرجنتينية من خسائر في القطع البحرية البريطانية المشاركة في حرب الفوكلاند.
لقد خسرت لندن في هذه الحرب فرقاطة ومدمرة، إلى جانب سفينة شحن، وبالتالي حرصت المؤسسة العسكرية البريطانية، حتى بعد توقيع اتفاقية “لاندمارك”، على منع القوات الجوية وطيران البحرية الأرجنتينيين من التزود بقدرات حديثة أو على الأقل تحديث ما يمتلكانه من وسائط جوية.
تشدد بريطاني واضح حيال تسليح الأرجنتين
واقع الأمر أنَّ تبعات الاستراتيجية البريطانية حيال القوات الجوية الأرجنتينية ألحقت أضراراً بالغة بالقدرات العسكرية لبيونس آيرس، التي كانت تمتلك خلال حرب الفوكلاند نحو 240 طائرة عسكرية متنوعة، لكن بات سلاحها الجوي في الوقت الحالي يرتكز على نحو 20 مقاتلة محدثة من نوع “إيه-4 سكاي هوك”، من دون أن تمتلك أي طائرات تدريب متقدم أو مقاتلات حديثة.
في حالة البحرية الأرجنتينية، لم يكن الوضع أفضل كثيراً، إذ باتت تعاني منذ عام 2020 معضلة تقادم معظم قطعها البحرية، في حين تناقصت بشكل حاد قدراتها البحرية النوعية، وخصوصاً الغواصات، إذ فقدت عام 2017 إحدى غواصاتها الأربع بعد غرقها نتيجة لعطل فني، في حين خرجت بقية الغواصات من الخدمة بحلول عام 2020.
تأثير وطأة القيود البريطانية في التسليح الأرجنتيني كان أكثر وضوحاً في ما يتعلق بسلاح الجو؛ ففي عام 2009، وقعت الأرجنتين مع فرنسا اتفاقية لتحديث أسطول الأولى من مقاتلات “سوبر أتندارد”، في محاولة لتخطّي رفض بريطانيا تزوّد الأرجنتين بمقاتلات إضافية من هذا النوع كانت تخدم سابقاً في البحرية الفرنسية.
الاتفاقية كانت تتضمن تزويد المقاتلات الأرجنتينية بالمعدات المتقدمة الموجودة على الطائرات الفرنسية بعد تفكيكها، لكن لم يتم تنفيذ هذه الاتفاقية بشكل كامل نتيجة العقبات البريطانية المتتالية. وقد اتفقت باريس وبيونس آيرس عام 2017 على شراء الأخيرة 5 طائرات من هذا النوع من التسليح الفرنسي.
وقد سلمت فرنسا بالفعل الطائرات الخمس عام 2019، لكن كان ينقصها عدد كبير من القطع والأنظمة، وخصوصاً الأنظمة بريطانية الصنع، مثل مقاعد القفز الخاصة بالطيارين. وقد حاولت باريس وبيونس آيرس إيجاد بدائل لهذه الأنظمة، إلا أنها في النهاية لم تنجح، وبالتالي ظلت هذه الطائرات مخزّنة حتى الآن.
مع تعذر عمليات تحديث مقاتلات “سوبر أتندارد” وخروج مقاتلات “ميراج-3” الفرنسية من الخدمة في سلاح الجو الأرجنتيني عام 2015 بسبب تقادمها، وصلت القوات الجوية الأرجنتينية إلى نقطة حرجة في مخزونها من الطائرات المقاتلة. بدأت بوينس آيرس عام 2010 بالبحث عن الخيارات المتاحة أمامها من المقاتلات الشرقية والغربية المنشأ، سواء كانت تلك المقاتلات جديدة أو استخدمتها إحدى الدول سابقاً، وهو بحث كانت لندن دوماً حجر عثرة أمام إتمامه.
كان الخيار الأول أمام بيونس آيرس هو مقاتلات “ميراج إف-1” الفرنسية الصنع، التي كانت تعمل ضمن تسجيلات سلاح الجو الإسباني. وبدأت مدريد عام 2010 بإخراجها تدريجياً من الخدمة. وقد وصل كلا الجانبين إلى مراحل متقدمة من التفاوض حول هذه المقاتلات، لكن تحت ضغط المملكة المتحدة، ألغت الحكومة الإسبانية التفاوض الأرجنتيني حول هذه المقاتلات في آذار/مارس 2014.
بعد ذلك، تحول سلاح الجو الأرجنتيني إلى مقاتلات “كفير”، وهي النسخة الإسرائيلية من مقاتلات “ميراج-5” الفرنسية التي كانت تخدم في سلاح الجو الكولومبي والإكوادوري. وقد تفاوضت الأرجنتين مع كلا الدولتين للحصول على هذا النوع من المقاتلات التي عزم كلا البلدين على إخراجه من الخدمة، لكن توقفت هذه المفاوضات تماماً عام 2017.
استمرت مساعي سلاح الجو الأرجنتيني للحصول على مقاتلات حديثة، فحاول عام 2015 شراء مقاتلات “جريبين” السويدية، وخصوصاً بعدما حصلت البرازيل – الدولة المجاورة للأرجنتين – على رخصة تصنيعها محلياً، لكن تم إجهاض الصفقة بين الجانبين، بعدما أحجمت بريطانيا عن توريد بعض الأجزاء والأنظمة التي تنتجها لهذه الطائرة، وهو ما فعلته لندن في ما يعلق بالمقاتلة الكورية الجنوبية “TA-50” التي حاولت الأرجنتين شراءها عام 2021، وكانت تتضمن أيضاً مكونات بريطانية الصنع.
النقطة الأهم في هذا الصدد التي انتقل من خلالها البحث الأرجنتيني عن مقاتلات جديدة إلى بعد مختلف تماماً هو توجهها منذ عام 2017 للبحث في إمكانية شراء مقاتلات صينية/باكستانية أو روسية أو باكستانية، إذ تضمَّن التفكير الأرجنتيني مقاتلات “سوخوي-35” الروسية ومقاتلات “JF-17” الباكستانية/الصينية، وهو المسعى الذي أثار مخاوف أميركية جدية من توغل صيني في الأرجنتين، تضاف إلى مخاوف أخرى من الدور الصيني في هذا النطاق ظهرت خلال السنوات الأخيرة.
التفاتة أرجنتينية نحو الصين
بشكل عام، كان توجه بيونس آيرس نحو الصين لإيجاد بدائل يمكن من خلالها تحديث قواتها الجوية من أهم نتائج الدور البريطاني التعطيلي في هذا الإطار.
تعود المفاوضات بين الجانبين في هذا الصدد إلى عام 2015، إذ شهد هذا العام الإعلان عن توقيع صفقة عسكرية كبيرة بين البلدين قدرت قيمتها بنحو مليار دولار، تضمنت تسليحاً بحرياً ونحو 12 مقاتلة من نوع “JF-17″، لكن بعد نهاية فترة رئاسة رئيسة الجمهورية ذات التوجهات اليسارية كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، وانتخاب الرئيس ذي الميول اليمينية ماوريسيو ماكري أواخر عام 2015، تم تجميد هذه الصفقة بشكل كامل، إلى أن تمَّ احياء التفاوض عليها مرة أخرى عام 2019. ومنذ ذلك التاريخ، شكلت الأزمات المالية في الأرجنتين والافتقار إلى السيولة اللازمة عقبة لبيع معدات دفاعية صينية للأرجنتين.
رغم هذا الوضع، فإنّ الصين، مدفوعة بيقينها بأهمية الأرجنتين بالنسبة إلى نفوذ بكين في أميركا الجنوبية، عملت بشكل متكرر على إغراء بيونس آيرس عبر المساعدات العسكرية والاقتصادية، فمنحتها عام 2018 مساعدات عسكرية بلغت قيمتها 17 مليون دولار، وهو ما ساهم في وصول التفاوض بين الجانبين حول المقاتلات إلى مرحلة متقدمة في أيار/مايو 2022، حين سافرت لجنة خاصة في القوات الجوية الأرجنتينية إلى الصين لاختبار المقاتلات.
ومنذ ذلك التاريخ، وصلت المفاوضات إلى مراحل متقدمة، كان أحدثها في آذار/مارس الماضي، عبر لقاء جمع بين وزير الدفاع الصيني والسفير الأرجنتيني لدى الصين، ناهيك بلقاء آخر تم في الشهر التالي بين وزير الدفاع الأرجنتيني خورخي تايانا ونائب رئيس شركة “نورينكو” الصينية للصناعات الدفاعية شو هونغ يو. وقد تمت خلاله مناقشة عدة ملفات للتعاون العسكري بين الجانبين، بما في ذلك إنتاج الذخائر وتحديث ناقلات الجند المدرعة.
تحركات بكين في قطاعات الأرجنتين المختلفة – وخصوصاً القطاع العسكري – تطورت بشكل كبير منذ عام 2014، لتشمل محاولة إيجاد وجود دائم على الأراضي الأرجنتينية عبر 3 مشروعات أساسية: المشروع الأول أُطلق عام 2014 عبر محطة فضائية صينية تم تأسيسها في منطقة “باتاغونيا” بموجب اتفاقية تم توقيعها بين شركة الأقمار الاصطناعية (CLTC) التابعة للجيش الصيني واللجنة الوطنية للأنشطة الفضائية الأرجنتينية (CONAE).
وعلى الرغم من أنَّ اتفاقية تأسيس هذه المحطة تمت مراجعتها عام 2016 من جانب البرلمان الأرجنتيني، للتأكد من عدم وجود استخدامات عسكرية لها، واقتصار الأنشطة فيها على برامج استكشاف الفضاء السحيق، فإنَّ واشنطن أبدت في عدة مناسبات توجسها من الإمكانيات “التجسسية” التي تمتلكها هذه المحطة.
من أمثلة المشروعات الصينية في الأرجنتين، مشروع بناء ميناء متعدد الأغراض في مدينة “أوشوايا” الواقعة في إقليم تييرا ديل فويغو القريب من القطب الجنوبي، ليكون بمنزلة محطة لوجستية للبحرية التجارية الصينية، وهي منطقة قريبة من القارة القطبية الجنوبية في الأرجنتين.
يعدّ هذا المشروع -الذي بدوره أثار مخاوف واشنطن من إمكانية تحوله إلى نقطة ارتكاز للقوات البحرية الصينية -أحد المشاريع التي تستهدف بكين من خلالها إشراك بيونس آيرس في مبادرة “الحزام والطريق”، علماً أن كلا البلدين قام الشهر الماضي بتوقيع اتفاقية للتعاون المشترك ضمن هذه المبادرة، سبقه توقيع عقد بقيمة 23 مليار دولار في شباط/فبراير 2022 لتنفيذ مشاريع متعلقة بهذه المبادرة.
تواجه المشروعات الصينية في الأرجنتين معضلات لوجستية تتعلق بالبطء الشديد من جانب بيونس آيرس في التجاوب مع المتطلبات التشغيلية والإدارية لتنفيذ هذه المشروعات، وهو ما تسبب بجمود معظم المشروعات التي بدأت الصين بمحاولة تنفيذها في الأرجنتين منذ عام 2014، مثل ميناء “أوشوايا” ومحطة للطاقة النووية، إلى جانب مشاريع قطاع الكهرباء والسكك الحديدية ومشروع سدود “سانتا كروز”، الذي يعدّ من أهم مشاريع البنية التحتية في الأرجنتين على الإطلاق.
الولايات المتحدة الأميركية ومحاولة للحاق بالركب
الولايات المتحدة الأميركية من جانبها كانت دوماً من أهم الداعمين للأرجنتين -وخصوصاً على المستوى العسكري- في مرحلة ما قبل حرب “الفوكلاند” وحتى منتصف السبعينيات، إذ فرضت عليها حظراً للتسليح بسبب موجة الانقلابات العسكرية التي ضربتها خلال هذه الفترة، لكنها قامت في مطلع تسعينيات القرن الماضي برفع هذا الحظر، نتيجة لمشاركة البحرية الأرجنتينية في العمليات العسكرية الأميركية في العراق عام 1991، وهي المشاركة التي مثلت نقطة بداية جديدة في العلاقات بين الجانبين، أدت لاحقاً، وتحديداً عام 1998، إلى إعلان واشنطن الأرجنتين “حليفاً رئيسياً من خارج الناتو”.
تحسن العلاقات في هذا الإطار ساهم في دخول واشنطن ضمن الأطراف التي لجأت إليها بيونس آيرس للحصول على طائرات مقاتلة، وإن كان التأثير البريطاني في هذا الإطار قد أوقف المحاولات الأميركية لتزويد الأرجنتين بمقاتلات “أف-16″، وان كانت واشنطن في الوقت نفسه قد قامت بتحديث مقاتلات “سكاي هوك” الأميركية الصنع العاملة في سلاح الجو الأرجنتيني.
التحركات الأرجنتينية الحثيثة نحو بكين كانت من الأسباب الرئيسية لعدم تمكن واشنطن من زيادة انخراطها العسكري ودورها في الأرجنتين، وخصوصاً خلال ولاية نيستور كيرشنر (2003-2007) وكريستينا فرنانديز (2007-2015)، لكن في المراحل اللاحقة، تفاوضت واشنطن مع الحكومة الأرجنتينية لإيجاد وجود عسكري أميركي دائم في مدينة أوشوايا وفي منطقة لاريزيستنسيا شمال شرقي البلاد، وهي المفاوضات التي أثارت ردود فعل سلبية على مستوى الداخل الأرجنتيني، ما ساهم في تجميد هذه المشاريع، ولو مؤقتاً.
خلاصة القول أن الأرجنتين باتت عملياً إحدى بوابات الصراع الأميركي – الصيني. ومع تزايد الدور الصيني في هذا النطاق، تصاعدت الأصوات الأميركية الداعية إلى زيادة التعاون الأمني والعسكري معها للحدّ من نفوذ الصين المتنامي فيها والعمل على حلحلة الجمود البريطاني في ما يتعلق بتسليحها، وهذا ما يفسر استمرار التفاوض بين واشنطن وبيونس آيرس حول مقاتلات “إف-16” وعدم إغلاق واشنطن هذا الباب نهائياً، ناهيك باستمرار الصفقات التسليحية الأميركية للجيش الأرجنتيني، وكان آخرها الموافقة في شباط/فبراير الماضي على تزويد سلاح الجو الأرجنتيني بـ6 طائرات مروحية من نوع “BELL-407”.