اقتراح عون ومعارضوه
وكالة أخبار الشرق الجديد ـ
غالب قنديل:
أثارت مبادرة العماد ميشال عون ردود فعل تركّزت على اعتبار دعوته إلى انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية بالاقتراع الشعبي المباشر انقلاباً على اتفاق الطائف الذي علقت منه بنود إصلاحية كثيرة أهمها آلية تجاوز الطائفية السياسية التي باتت نصاً دستورياً ملزماً ولم تصدر مبادرة سياسية للتقدم صوبها إلّا وصرخ المعترضون أنفسهم رفضاً واحتجاجاً، وآخرها كانت الردود غير العقلانية التي قوبل بها اقتراح الرئيس نبيه بري باعتماد قانون للانتخاب على أساس نظام المجلسين الذي تمّ التداول به في مؤتمر الطائف المؤسّس للميثاق الجديد، ومن ضمن الآلية المتدرجة لتطوير الحياة الوطنية عبر تجاوز الطائفية السياسية.
من البديهيات الدستورية أنّ النصوص تقبل التعديل والمراجعة بما يتلاءم ووقائع الحياة، والمعنى الرئيسي في مبادرة زعيم التيار الوطني الحرّ هو الاحتكام إلى الشعب اللبناني في اختيار رئيس للجمهورية لكسر حالة الاستعصاء التي بلغها النظام السياسي، وهو اقتراح يضعف بالفعل تأثير التدخلات والضغوط الخارجية التي تفعل فعلها في مواقف العديد من الكتل النيابية وخياراتها الرئاسية منذ أربعينات القرن الفائت، وهو ما ظل سارياً في ظلّ اتفاق الطائف الذي قام على مفهوم الرعاية الإقليمية والدولية. ويمكن ربما تفهّم بعض الاعتراضات على مضمون المرحلة التأهيلية من الاقتراح أي حصر الاقتراع بالناخبين المسيحيين، وهذا ما عرض العماد عون حيثياته ومنطقه، لكن في رفض الاقتراح من أصله سباحة عكس اتجاه التاريخ وسنن التقدم والتطور.
يجب أن يعترف اللبنانيون بأنّ الدستور اللبناني الذي وضع في ظلّ الانتداب الفرنسي ينطوي على آليات اعتمدت لتسهيل التأثيرات الخارجية عبر نفوذ الدول والسفارات داخل الهيئة الناخبة في مجلس النواب بدلاً من إناطة انتخاب الرئيس بالشعب مباشرة، كما هي الحال في فرنسا، حيث يشترك الرئيس المنتخب شعبياً مع حكومة الغالبية النيابية في ممارسة السلطة الإجرائية بآلية مركبة تجمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني وسيرة المساكنة الفرنسية المشهورة هي الدليل، ولذلك فليس صحيحاً القول بأنّ اقتراح العماد عون ينقل لبنان إلى الحكم الرئاسي بالضرورة، وذاك ما ظنّ فيه البعض إخلالاً بمعادلات الوفاق والشراكة.
إنّ الأزمة الحالية التي يجتازها لبنان ليست أزمة عارضة، وهي بصراحة ووضوح أزمة النظام الذي جعل منه الانتخاب النيابي على قاعدة الأكثرية حلقة طائفية مغلقة وخانقة للتعدد السياسي ولتعبيراته الطبيعية، حتى عندما يكون التخندق السياسي عابراً للطوائف كما هي حالنا الراهنة.
لقد همّش نظام الانتخاب النيابي الأكثري العديد من التيارات والتعبيرات السياسية ولا مناصّ من النسبية التي يعترف الجميع بأنها الأقرب إلى ضمان صحة التمثيل وهم ينظمون بها القصائد ثم سرعان ما يغدو مصيرها الإهمال والتخلي.
في جميع الديمقراطيات تذهب الدول إلى انتخابات نيابية باكرة في مثل الأزمة التي يجتازها لبنان مع الشغور الرئاسي المرشح للامتداد، فكيف إذا كانت البلاد غارقة في أزمة مركبة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية، وتطرح الحاجة إلى تغيير جذري وشامل يتيح إطلاق عملية إعادة البناء الوطني.
تعديل الدستور لانتخاب الرئيس من الشعب مباشرة خطوة تقدمية في اتجاه تطوير الدولة والمؤسسات، والمعترضون الذين أوحت ردودهم أنّ في الاقتراع الشعبي مصلحة رئاسية للعماد ميشال عون، إنما يعترفون ضمناً ومواربة بأنّ الغالبية اللبنانية الساحقة تقف مع انتخابه رئيساً للجمهورية، وهم يمنعون إرادتها من التحقق مع سبق الإصرار، ففي منطقهم تسليم بأنّ العماد هو في نظر الغالبية اللبنانية المرشح المفضل لرئاسة الجمهورية.
المنافسة في الانتخابات أمام الشعب على أسس عادلة ومتكافئة هي معنى الديمقراطية وروحها، والتصميم على رفض تغيير النظام الانتخابي ونبذ أي تعديل للدستور ليس سوى موقف رجعي يتوخى أصحابه الحجر على اللبنانيين في قيد نظام أثبت عدم قابليته لإنتاج دورة طبيعية في تداول السلطة وممارسة المؤسسات الدستورية لأدوارها بشكل طبيعي، وهذا ما يقود كما برهنت التجربة اللبنانية إلى مزيد من الشلل والانحلال والتأزّم.
برهنت عمليات تشكيل الحكومات ومخاضات بياناتها الوزارية منذ أعوام على أنّ المؤسسات اللبنانية أسيرة استعصاء خطير لا يمكن الخروج منه من غير إصلاحات كبرى وجريئة تضع الدولة ومكوّناتها الكبرى في طريق التقدم والحداثة، وهذا ما تختصره خطوتان حاسمتان: النسبية في الانتخابات النيابية والاقتراع الشعبي المباشر في انتخابات الرئاسة وإعادة توزيع الصلاحيات الدستورية بروح الحفاظ على الشراكة الوطنية والميثاقية المحصنة بإرادة الشعب مصدر جميع السلطات، أليس كذلك؟