استعصاء الحرب الأوكرانية في عامها الثاني ومآلاته
صحيفة الوطن السورية-
عبدالمنعم علي عيسى:
مرّت الذكرى السنوية الأولى لانطلاق الصراع الروسي- الغربي على الأرض الأوكرانية وهي تحمل في تراسيمها ملامح استعصاء عسكري استولد بالضرورة نظيراً له سياسياً ما أعطى المشهد قتامة حول تطورات ذلك الصراع والمآلات التي يمكن له الذهاب إليها، وفي ذلك المشهد، برزت ملامح عدة يمكن من خلالها التنبؤ بتلك التطورات جنباً إلى جنب المآلات آنفة الذكر.
تمترس طرفا الصراع المتمثلان بالاتحاد الروسي من جهة، والغرب من جهة أخرى، عشية دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني، وراء مواقفهما المتصلبة، ما يشي بأن حصول اختراقات تفضي إلى وضع حد لذلك الصراع، الذي بات يتهدد القارة الأوروبية إن لم يكن العالم بأسره، أمر لا يزال بعيداً، ففي الوقت الذي أكد فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه الذي ألقاه بالذكرى السنوية الأولى على اندلاع الصراع على أن «من المستحيل على روسيا أن تهزم» بكل ما يعنيه ذلك التأكيد من احتمالات تطور الصراع واتخاذه خطاً تصاعدياً لا أحد يعلم الدرجة التي يمكن له الوصول إليها، جاءت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لكييف ولقاؤه بنظيره الأوكراني لتطلق مجموعة من الرسائل العسكرية والسياسية على حد سواء وهي في مجملها تريد القول إن الغرب و«ناتو» لن يقبلا بتحقيق روسيا لنصر حاسم في أوكرانيا.
في خلفية الصورة والدوافع التي قادت بالضرورة إلى حالة الاستعصاء آنف الذكر، يمكن القول إن روسيا باتت موقنة بوجود مخطط غربي يرمي إلى تفكيكها، وما لم يقله بوتين في خطاب الذكرى السنوية الأولى، قاله في مقابلة بثتها قناة «روسيا 1» يوم 26 شباط الماضي، وفي هذه الأخيرة كان الرئيس الروسي صارخاً في القراءة التي قدمها تجاه الصراع والنتائج التي يمكن له أن يفضي إليها، فهو قال: «إذا تم تفكيك روسيا أعتقد أن مصائر العديد من الأشخاص الذين يعيشون في روسيا، وقبل كل شيء الشعب الروسي بالطبع، قد تتغير بشكل جذري»، ثم أضاف: «أشك أن الشعب الروسي سينجو من هذا الأمر، بل قد يحل محله بعض سكان موسكو غير الأصليين والأورال وغيرهم»، وقبله بثلاثة أيام كان المفكر الروسي ألكسندر دوغين قد ظهر على قناة «العربية» ليحذر من أن خسارة روسيا للحرب سيعني اندلاع حرب أهلية فيها، قبيل أن يضيف إن «روسيا لن تستخدم السلاح النووي إلا مع خسارة الحرب»، لكن اللافت هو قول دوغين في تلك المقابلة في إطار عرضه للموقف الصيني من الصراع الدائر أن «الصين تستفيد من نضال روسيا نحو عالم متعدد الأقطاب، وهي تدعمنا لكن لا تتضامن معنا»، ثم أضاف: «الصين تتعلم من أخطائنا وليست مستعدة للمخاطرة».
هذه الصورة الأخيرة التي قدمها دوغين لا تبدو ثابتة، بل من المؤكد أن ثمة مؤشرات كانت قد تراكمت عشية دخول الحرب عامها الثاني، وهي تشير إلى حدوث انزياحات وازنة في الموقف الصيني منها، بل والإيراني أيضاً، فعشية زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى واشنطن يوم الجمعة الماضي ولقائه بالرئيس الأميركي جو بايدن، قال منسق الاتصالات الإستراتيجية لدى مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي: إن جدول أعمال القمة كان قد تطرق لـ«التحديات التي تطرحها الصين» بعدما تزايدت الاتهامات الأميركية للصين والتي مفادها أن «بكين تجري دراسة لتسليم موسكو أسلحة جديدة»، وفي الغضون نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية تقريراً مطولاً نقلت فيه عن مسؤولين أميركيين «رفيعي المستوى» وفقا لتوصيفها، أن «موسكو تغري طهران عبر تزويدها بمقاتلات ومروحيات وأنظمة دفاع جوي» في مقابل «بناء طهران لمصنع طائرات مسيرة في روسيا»، لكن التقرير يخلص إلى نتيجة مفادها أن «الموقف الإيراني من الحرب (الأوكرانية) مرشح لحدوث انزياحات جديدة خصوصاً في ظل التوتر الحاصل في العلاقة الإيرانية مع الغرب عموماً والولايات المتحدة على وجه الخصوص، على خلفية الجمود الذي تعانيه المفاوضات المتعلقة بالعودة للاتفاق النووي مع طهران».
ثمة مؤشر آخر يزيد من احتمالية الانزياح الصيني بدرجة أكبر نحو التقارب مع موسكو وهو ما ظهر عبر موقف بكين الداعم للأخيرة في اجتماع «قمة العشرين» الذي حصل مؤخراً في العاصمة الهندية نيودلهي، وفي ذلك الاجتماع، إخفاق الغرب في تمرير بيان يدين الحرب الروسية في أوكرانيا عبر اعتراض مزدوج صيني- روسي، ولربما يزيد من هذا كله المبادرة الصينية التي أطلقتها بكين لحل الصراع في أوكرانيا عشية دخوله لعامه الثاني، والمبادرة، التي قالت بإطلاق مسار للمفاوضات السياسية مع رفضها لسياسة العقوبات أحادية الجانب، تهدف بالدرجة الأولى لمحاولة إيجاد «تبرير» للانزياح الحاصل، أو الذي يمكن أن يحصل، في الموقف الصيني، ثم تهدف إلى خلق «خلخلة» من نوع ما وبأي درجة كانت في طبيعة العلاقة القائمة ما بين كييف وواشنطن، فقبول الأولى بالمبادرة الصينية سيعني بالضرورة فشلاً للولايات المتحدة بل ولربما يصح توصيفه على أنه تهتك، ليس بجديد، في نسيج القطبية الأحادية الأميركية.
ما نريد قوله هنا هو أن التوازنات المحيطة بأي صراع تكون شديدة التأثير بمجرياته وبالنتائج التي يمكن أن يؤول إليها، وإن التوازنات التي أحاطت بالصراع الأوكراني في عامه الأول مرشحة للانقلاب عشية دخوله عامه الثاني، حيث من المرجح أن يشهد هذا الأخير انزياحاً أكبر في مواقف دول وازنة مثل الصين وإيران ولربما الهند والبرازيل.