استعادة المخيم كقلب للثورة العربية
موقع قناة الميادين-
موفق محادين:
المخيمات في فلسطين المحتلة وصمودها البطولي تؤكد أنّها قادرة ومؤهّلة موضوعياً لأن تكون في طليعة مشروع التحرر والثورة، بخلاف المقاربات التي تصوّر المخيمات “حائطَ مبكى” لنشر ثقافة اليأس والهزيمة.
أظهرت موجات المقاتلين الشبان المتلاحقة في مخيمات جنين وشعفاط ونابلس وكل المخيمات في فلسطين المحتلة، أن العدو الصهيوني وامتداداته في كل مكان فشلت فشلاً ذريعاً في إنهاء المخيم كظاهرة خاصة.
نشير هنا إلى الإزاحات الخطرة التي تعرض لها المخيم بسبب السياسة الصهيونية المذكورة، وبهدف صناعة بدائل سياسية واجتماعية وأيديولوجية عن تحديد العدو الصهيوني كموضوع تناقض تناحري رئيس، وكان بينها:
1. الاختراقات الأصولية للجماعات التكفيرية المبرمجة صهيونياً وأميركياً ورجعياً، كما ظهرت في مخيم اليرموك خلال استهداف سوريا ومحاولة تحطيمها استكمالاً لتحطيم العراق في العدوان الأطلسي، وعزل مصر عبر كامب ديفيد، كما من خلال استهداف المخيمات الفلسطينية في لبنان وإغراقها بالجماعات التكفيرية المشبوهة.
2. في حالة أخرى، مثل المخيمات في الأردن، بالإضافة إلى نشاطات أصولية مركبة، ناعمة وخشنة، تم اختراق المخيمات عبر دوري كرة قدم في إزاحة مركّبة، سياسياً وطبقياً، تنقل القضايا الاجتماعية والسياسية من مسرحها الوطني ضد العدو الصهيوني والتحالف الطبقي الفاسد إلى الملاعب، على نحو يؤدي في كل مرة إلى شق وحدة الطبقات الشعبية على أساس إقليمي كريه ومشبوه.
وليس بلا معنى أن تحويل مراكز الشبّان في المخيمات إلى أندية رياضية ضمن الدوري العام لكرة القدم وغيرها جاء بعد أيلول/سبتمبر 1970 واستراتيجية تفريغ الاحتقانات الوطنية الطبقية على المدرجات، وصناعة رموز رياضية بديلة عن الرموز السياسية. ومن المؤسف أن “أوساطاً سياسية” من الطرفين تورّطت في هذه الإزاحة.
3. العمل التخريبي المبرمج ضد المخيمات من خلال ترويج المخدرات (بسعر مدعوم) يذكّر بالسياسات التي اتّبعتها الاستخبارات الأميركية ضد عشوائيات الفقراء في أميركا اللاتينية بعد أن أصبحت هذه العشوائيات معاقل للحركة الوطنية الراديكالية والبؤر الجيفارية.
4. يُضاف إلى ذلك أن البنية الاجتماعية للمخيم لا تلائم قوى البرجوازية الصغيرة، والتي غالباً ما تسيطر على الحياة السياسية في الأوساط والتنظيمات ذات الطابع التلفيقي، وتغلّب مصالحها الخاصة بقَدْر عالٍ من المراوغات والتبريرات والنفاق السياسي.
وليست أمراً صعباً ملاحظةُ أن فصائل وقوى متعددة تنتمي إلى هذه البرجوازية، وتَضيق ذرعاً بالخطابات الراديكالية عندما تكون مستندة إلى قوى طبقية تعكس المصالح الحقيقية للفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، فكيف إذا كانت هذه الشرائح من طينة المخيمات الفلسطينية.
إلى ذلك، وفيما يخص المخيم وأهمية تحريره من هذه الألاعيب المشبوهة، تحضرنا مقاربات مهمة للروائي الفلسطيني غسان كنفاني في قصته “أم سعد”، كما في مجمل لوحات الفنان الشهيد ناجي العلي ورموزه، في حنظلة وفاطمة وغيرهما.
كما تحضرنا ظاهرة الشبان الأبطال في مخيمات الداخل الفلسطيني كتعبير حقيقي عن الدور الكفاحي لهؤلاء الشبان في مقابل شبان الثورات الملونة وجماعات الأوتبورا.
أمّا البعد الفكري العام والذي تناول المخيم الفلسطيني وخطورته على العدو الصهيوني والنظام العربي الرسمي التابع وبضمّه اليمين الفلسطيني، فهو البعد الذي عبر عنه المثقف والروائي الأردني غالب هلسه.
في دراسة مبكّرة جداً صدرت في العدد الـ15 من ربيع 1989 في مجلة “الكاتب الفلسطيني”، وكانت تطويراً لمقال أقدم كثيراً في مجلة “الآداب” البيروتية، الصادرة عام 1961، توصل فيها الكاتب إلى أن التكوينات العسكرية العربية (الرسمية) لا تستطيع حسم صراع استراتيجي مع الجيش الإسرائيلي، وفي المقابل فإن هذا الجيش لا يستطيع إنهاء المواجهات مع المخيمات الفلسطينية، يقول هلسه إنه: عندما قام الشعب اللبناني (بدعم ومشاركة من الفلسطينيين) بمقاومة الغزو، اعتمد في نضاله أساليب المخيم، فتحولت القرية اللبنانية – بصورة موقّتة – إلى مخيم فلسطيني، عبر انغماس جميع سكان القرية في المقاومة، مع إعطاء كل فئة من السكان الشكل الملائم للنضال.
كذلك، في الوقت الذي انهارت القوات المسلحة الفلسطينية في مدينة صيدا في يوم واحد، صمد مخيم عين الحلوة ثلاثة أعوام، وما زال صامداً.
إن عدم الكفاءة الإسرائيلية في مواجهة المخيم الفلسطيني لم يكن عسكرياً فقط، بل أصبح تدميراً معنوياً للمقاتل الإسرائيلي، وهزيمة على المستوى الدولي، سياسياً ومعنوياً.
إن قتال المخيم الفلسطيني ليس شكلاً جديداً من أشكال حرب الشعب، بل صورة لأمة يقاوم كل فرد فيها الغزو الأجنبي. ولهذا، فإن نتائج قتاله ليست نصراً أو هزيمة عسكرية، بل ضربة تصيب العدو مؤدية إلى انهيار شامل. وبهذا، نستطيع القول إن المخيم الفلسطيني، كقاعدة مقاتلة، يشكل تحدياً لكل المفاهيم العسكرية السائدة، وأنه قادر على أن يكون القلب والمركز الثابتين والمستمرين للثورة العربية.
وتعيد الدراسة ذلك إلى أن المخيم الفلسطيني، الذي يعيش تحت مستوى الطبقات، والذي يربط وجوده بوجود “إسرائيل”، ونهايته بنهايتها، هو الذي سوف يستمر حتى التحرير الشامل، قاعدةً للثورة الجذرية؛ ثورة جذرية عربية قادرة على تحرير الوطن العربي وإزالة “إسرائيل”.
وهو ما يتطلّب أيضاً إعادة النظر في المفهوم السائد بشأن المخيم، كما لو أنه حالة من الحالات التقليدية في الجسم الفلسطيني، بحيث إن هذا المفهوم أصبح مأزقاً حقيقياً للثورة الفلسطينية، وللثورة العربية. فاستعادة فلسطين ليست حلاً لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وليست قضية فلسطينية خالصة، بل هي مواجهة شاملة للمشروع الإمبريالي.
لذلك، فإن إلغاء دور المخيم الفلسطيني كقاعدة ثابتة للثورة العربية الجذرية هو سياسة ثابتة للأنظمة العربية التابعة. وبالتالي، فإن كل قوة سياسية تسعى لفرض تغيير ديمغرافي لإلغاء المخيم الفلسطيني كقوة ثورية مسلحة، تشكل قلب الثورة العربية، أو تسعى لإلغاء هذا المخيم، لن تفعل ذلك إلّا بتوافق مع المخططات الأميركية والإسرائيلية الهادفة إلى تثبيت وضع يجعل وجود “إسرائيل” مقبولاً في المنطقة العربية.
في المحصّلة، تؤكد المخيمات في فلسطين المحتلة وصمودها البطولي أنها قادرة ومؤهّلة موضوعياً لأن تكون في طليعة مشروع التحرر والثورة، بخلاف المقاربات التي تصوّر المخيمات “حائطَ مبكى” لنشر ثقافة اليأس والهزيمة.