اذهبوا وفجّروا في لبنان…
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
جان عزيز:
بين متفجرة بئر العبد والعبوات المتكررة على طريق بيروت دمشق واغتيال محمد ضرار جمّو في الصرفند، لا بد للمراقب أن يتذكر صرخة وليد جنبلاط الخائف والقلق بعد انفجار الضاحية. يومها، لم يفصح جنبلاط أكثر. لم يصرّح بما فهم هو من تلك الرسالة الدامية، ولم يلمّح حتى إلى مَن هو المقصود بصرخته، ومَن المطلوب منهم أن يفهموا وأن يعتبروا.
بعد توالي الأحداث، صارت مثل مجموعة واضحة من النقاط. يكفي وصلها لرسم شكل السلسلة المقصودة منها، فتصير صرخة بيك المختارة أقرب إلى الفهم وأسهل للترجمة: كأنه يحذر أو ينذر من أن يكون لبنان على طريق العراق، وأن تكون الأسباب لذلك مأزقاً سعودياً في التعامل مع الأميركي، وأن تؤول النتيجة إلى تذابح سني ـــ شيعي، وأن تكون الخلاصة كارثة على ما كان بلداً…
كيف؟ يقول المطلعون على الحقائق المحظورة والوقائع المحرمة، أنه ذات يوم من أيام ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وجد السعودي نفسه في مأزق. فمن جهة أولى، كان المتشددون السّنة داخل أراضيه وخارجها في حالة غليان، لم يسلم نظام الرياض من إرهاصات حممه. وكان هؤلاء يتهمون العائلة السعودية بالتساهل مع «احتلال الكفار لأرض عربية وإسلامية». لا بل أكثر من ذلك، يعدّون تلك العائلة متورطة في النكبة الجديدة، نظراً إلى التحالف الوثيق بين الرياض وواشنطن. ومن جهة ثانية، كانت السعودية لا تنفك تعبّر للعاصمة الأميركية عن قلقها من أداء الولايات المتحدة في العراق، بما قد يفضي إلى تسليم هذا البلد المحاذي إلى عدو لدود اسمه إيران. هكذا أحسّ السعوديون أنفسهم يومها عالقين بين كماشة مؤذية، وإن مكونة من فكين صديقين: فك «صديق» أول هو صاحب الفكر الوهابي، ابن النظام ونتاجه، والانبثاق الطبيعي لفكره والربيب الدائم لتمويله، الذي صار يرى في سياسة العائلة السعودية تخاذلاً أو حتى تآمراً مع الأميركي على احتلال العراق… وفك صديق ثانٍ هو الأميركي نفسه، صاحب الفكر الاستعماري الجديد، عراب التركيبة السعودية، منذ أعلنها هو دولة بعد أشهر قليلة على اكتشاف أول بئر نفطية في تلك الصحراء، والذي جاء يتصرف الآن في أرض الجوار والجيرة، كمن يمهد لانتقالها إلى أرض عداء صفوي واستعداء فارسي.
عند هذا الحد، خرجت تلك الدوامة السعودية إلى العلن. فوقعت بعض الأعمال الإرهابية في السعودية نفسها، فيما راح مسؤولون سعوديون يرفعون صوتهم علناً في انتقاد واشنطن وإدانة سياستها العراقية. فبدأ المأزق يتفاقم، إلى أن اجترح أحدهم الحل السحري. يومها، جاء أحد البراغماتيين إلى أقصى الحدود (ممن يحبهم سعد الحريري وعبّر لهم عن حبه علناً في بعض التسجيلات!) وعقد اتفاقاً مع «الجهاديين». قال لهم ما معناه: نحن معكم. لا بل أنتم أصلاً منا وفينا. وما يحصل في العراق لا يمثل إرادتنا ولا يحظى برضانا. فلنتفق إذاً على معادلة جديدة كالآتي: أنا أؤمّن لكم كل التمويل والتجهيز وسبل الوصول إلى بغداد. فاذهبوا إلى هناك، وقاتلوا من شئتم من شيعة أو فرس أو أميركيين، ونحن معكم. لكن، ممنوع أن تعبّروا عن «جهادكم» على أراضي العائلة السعودية…
ونجحت الصفقة، واحتُرم الاتفاق ونُفذ خير تنفيذ. أما القلة القليلة من الذين خرجوا عليه، فاختُرع لهم يومها مفهوم معبِّر جداً: «الفئة الضالة». بمعنى أن لا مشكلة مع فكر هؤلاء، ولا مع وسائل تجسيدهم لفكرهم. كل المشكلة في المكان. فحين يكون الانتحاري على الجانب العراقي من الحدود، يكون «مجاهداً»، أما حين يكون هو نفسه عند الجانب السعودي منها، فيصير «إرهابياً» و«مخرباً» ومن «أهل الفئة الضالة»… نجح الاتفاق أيما نجاح، حتى «تعرقن» العراق.
اليوم ثمة من يعتقد أن الجهة نفسها باتت في المأزق نفسه في سوريا. فهي من جهة أولى عرضة لضغوط «الجهاديين» الخائبين من معركة سوريا بعد عامين ونصف على إعلانها وعلى إطلاق الوعود بحسمها ونصرها. وهي من جهة أخرى مصدومة ومخيبة من الأداء الأميركي خصوصاً والغربي عموماً، لجهة التخلي عن «ثوار سوريا». كأن الدوامة نفسها عادت لتقض مضاجع القصور السعودية. «الأخوة المجاهدون» يسألون أهل الرياض: ماذا فعلتم لنا بعدما أزحتم القطري و«حرتقتم» على التركي وضربتم المصري، ثم سكتم فجأة عن تخلي واشنطن عنا؟ فيما أهل الرياض نفسها يرفعون السؤال إلى واشنطن: كيف تتركون «إخوتنا» في سوريا عرضة لضربات بشار الأسد، ما قد يؤدي إلى انقلاب هؤلاء علينا، لكوننا حلفاءكم وأصدقاءكم ووكلاءكم وأزلامكم؟ وبين السؤالين، ثمة من يخشى من أن يكون الحل للمأزق: اذهبوا إلى لبنان. فجّروا وروّعوا واذبحوا وجاهدوا هناك ما شئتم، ضد الشيعة الروافض أو ضد سواهم، أفرغوا مكبوتاتكم وخيباتكم هناك، حتى يقضي الله بيننا وبين واشنطن ودمشق أمراً كان مفعولاً… يحق لوليد جنبلاط أن يخاف إذاً. لكن الأهم أن يعتبر المقصودون بصرخته وخوفه.