اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال وتبعات التسلل للبحر الأحمر
موقع قناة الميادين-
ثابت العمور:
يعدّ الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال، تجسيداً لحالة الاضطراب التي تعيشها منطقة القرن الأفريقي خلال السنوات الأخيرة بـفعل تحالفات معلَنة وأخرى غير معلَنة بين قوى إقليمية ودولية تتسابق لامتلاك النفوذ بالمنطقة.
بينما يواصل كيان الاحتلال الحرب على قطاع غزة والتي دخلت شهرها الخامس على التوالي؛ تتجه الأنظار الدولية والإقليمية الى البحر الأحمر وتحديداً باب المندب؛ ولا سيما بعد إعلان أنصار الله في اليمن استهداف السفن المتجهة إلى كيان الاحتلال نصرة لمظلومية الشعب الفلسطيني؛ مؤكدة أنها لن توقف هجماتها حتى يتوقّف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتدرج الاستهداف عقب العدوان الأميركي البريطاني على اليمن الذي بدأ في 12 كانون الثاني/يناير الماضي؛ وباتت السفن البريطانية والأميركية في دائرة الاستهداف في البحر الأحمر ردّاً على العدوان.
لم يكن هذا المتغيّر هو الوحيد في منطقة البحر الأحمر التي يبدو أنها مقبلة على جملة تطورات دولية وإقليمية؛ ففي 1 كانون الثاني/يناير 2024، وقّع كل من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ورئيس إقليم أرض الصومال الانفصالي موسى بيهي عبدي؛ مذكّرة تفاهم تمنح أديس أبابا الوصول إلى البحر الأحمر. وهو ما أفضى إلى جملة من التكهنات حول التداعيات الجيوسياسية لهذه الخطوة، وتأثيراتها على العلاقات بين دول القرن الأفريقي.
ويعدّ الاتفاق، الذي وصفته إثيوبيا بأنه اتفاق “تاريخي”، تحوّلاً استراتيجياً لأديس أبابا، التي فقدت منفذها البحري المباشر بعد إعلان استقلال إريتريا في عام 1993. واعتمدت على ميناء عصب في إريتريا لكنها فقدت الوصول إليه خلال الصراع بين البلدين من 1998 إلى 2000، مما دفع إلى التحوّل إلى ميناء جيبوتي لتسهيل تجارتها.
في 14 تشرين الأول/أكتوبر الماضي؛ أكد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، أن الحصول على منفذ بحري قضية حياة أو موت لبلاده الحبيسة، ملمّحاً إلى أنها ستحصل على هذا الحق بالقوة أو بغيرها. وأشار بيان صادر عن رئاسة الوزراء الإثيوبية إلى أن هذه المذكّرة “ستمهّد الطريق لتحقيق تطلّعات إثيوبيا في تأمين الوصول إلى البحر وتنويع وصولها إلى الموانئ البحرية”. ورغم تأكيده اللاحق اتباع إثيوبيا الطرق السلمية لمعالجة هذا الملف، فإن هذه المطالبات رفعت مناسيب التوتر مع جيران بلاده الساحليّين في القرن الأفريقي.
وأعلنت وزارة خارجية أرض الصومال في بيان لها أن الاتفاق “يضمن لإثيوبيا وصول قواتها البحرية إلى البحر، مقابل الاعتراف الرسمي بجمهورية أرض الصومال”، حيث سيؤجّر إقليم أرض الصومال الانفصالي لإثيوبيا شريطاً ساحلياً بطول 20 كيلومتراً لمدة 50 عاماً. وخلال 3 عقود عمل الإقليم الانفصالي على نيل الاعتراف الدولي باستقلاله لكنه لم يفلح في هذا المسعى، في حين يرى مراقبون أن الاعتراف الإثيوبي قد يكون مقدمة لخطوات مماثلة من دول أفريقية أخرى.
أفضت مذكّرة التفاهم تلك بين إثيوبيا وأرض الصومال إلى تتابع الردود من جيران إثيوبيا الساحليّين جيبوتي والصومال وإريتريا، وتحدّثت تقارير عن حشود عسكرية على الحدود الإريترية الإثيوبية، مما أدى إلى تصاعد المخاوف من اندلاع نزاع مسلح من الطرفين يكون البحر الأحمر فتيل تفجيره.
ويهدّد التفاهم الإثيوبي مع أرض الصومال بإشعال أزمة بين مقديشو وأديس أبابا، حيث صوّت البرلمان الصومالي بمجلسيه الشعب والشيوخ، بالإجماع، على إلغاء المذكّرة، واعتبرها منافية للمواثيق والأعراف الدولية. واعتبرتها الحكومة الصومالية “انتهاكاً سافراً لسيادة الصومال”، مؤكدة أنها ستتخذ كل الإجراءات التي تمكّنها من الدفاع عن سيادتها شعباً وأرضاً. وعليه استدعت مقديشيو سفيرها في أديس أبابا للتشاور غداة الإعلان عن الاتفاق.
أثار مشروع الاتفاق المشار إليه والذي يسمح لإثيوبيا باستغلال منفذ بحري رئيسي في جمهورية أرض الصومال غير المعترَف بها دولياً، العديد من الانتقادات السياسية والقانونية، إقليمياً ودولياً، كما زادت الخطوة الإثيوبية من وتيرة المخاوف من عسكرة البحر الأحمر؛ إذ تسعى أديس أبابا، بموجب الاتفاق، إلى إنشاء قاعدة عسكرية في منطقة تشهد احتشاداً للعديد من القواعد العسكرية الدولية، ما يزيد من حدة التنافس الإقليمي والدولي، ويهدّد بمواجهات مسلحة في منطقة تعاني بعض دولها من هشاشة أمنية واقتصادية.
يعزّز الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال موقف أديس أبابا في البحر الأحمر والمحور الثلاثي بين إثيوبيا والإمارات و”إسرائيل”. فالوصول إلى منفذ بحري وتأمين قاعدة عسكرية للبحرية الإثيوبية على مدخل باب المندب والبحر الأحمر ومنهما إلى قناة السويس، وما يُمثِّله ذلك من أهمية استراتيجية وجيوسياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية لأديس أبابا تُمكِّنها من تعزيز هدفها المنشود في أن تصبح أحد أقطاب القارة الأفريقية، وصاحبة النفوذ الأقوى في القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
الملفت أن “إسرائيل” لم تكن بمعزل عن ذلك، نظراً لما يمثّله البحر الأحمر لها من أهمية استراتيجية تؤثّر على أمنها وتجارتها، وبالتالي يمكن أن تستخدم هذا الوضع الجديد لتعزيز نفوذها وتعزيز وجودها الأمني في البحر الأحمر. فمساعي إثيوبيا لانتزاع ميناء بحري وقاعدة عسكرية على شاطئ البحر الأحمر تتطابق مع المصالح الإسرائيلية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
وبينما رفضت قوى دولية وإقليمية وعربية الاتفاق وتبعاته؛ رحّبت به “إسرائيل” وكشف سفير إثيوبيا لدى “تل أبيب” تسفاي يتايه في 29 كانون الثاني/يناير 2024، عن موقف “تل أبيب” من مذكّرة التفاهم، أن المسؤولين الإسرائيليين أبدوا لفتة إيجابية تجاه تطلّع إثيوبيا للوصول المباشر إلى البحر الأحمر وخليج عدن.
وأشار يتايه إلى دعم “تل أبيب” لإقامة قاعدة عسكرية إثيوبية على البحر الأحمر، قائلاً “إسرائيل تتوقّع حصول إثيوبيا على قاعدة عسكرية كخطوة جيدة لتحقيق الاستقرار في المنطقة المضطربة، ولا تعارض صفقة الميناء التي أبرمتها الأخيرة مع أرض الصومال”.
وأضاف أن سفارة إثيوبيا في “تل أبيب” أجرت مناقشة مع مسؤولي “دولة” الاحتلال بشأن اتفاقية الموانئ بين إثيوبيا وأرض الصومال وتفهّمت قناعة الأخير بسعي إثيوبيا للوصول إلى الموانئ السيادية. مؤكداً أن موقف “إسرائيل” لا يقتصر على البقاء على الحياد فحسب، بل هي تظهر لنا لفتة داعمة.
قطعاً لا يمكن فصل مذكّرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال عن التطورات الحاصلة في باب المندب، وإعادة تشكيل منطقة القرن الأفريقي بما يتماشى مع المصالح الأميركية، و”الحد من النفوذ الروسي الصيني في المنطقة”.
ويمكن إيجاز التبعات المترتّبة على الاتفاق في الآتي:
– الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال لا يقتصر على الأبعاد القانونية لاتفاق بين طرفين، بل له امتدادات استراتيجية، ولا سيما أن تبعات الاتفاق تتعلق بمنطقة تتزاحم فيها القواعد العسكرية التابعة للعديد من القوى الدولية والإقليمية، فتضمّ جيبوتي وحدها 6 قواعد عسكرية أجنبية؛ بينها أكبر قاعدة عسكرية أميركية في أفريقيا هي قاعدة “ليمونير” التي تعدّ القاعدة الوحيدة الدائمة للولايات المتحدة في القرن الأفريقي، وتقوم بأدوار أمنية وعسكرية حساسة في شرق أفريقيا واليمن، وقواعد عسكرية لحلف الأطلسي “الناتو”، والقاعدة العسكرية الوحيدة للصين خارج حدودها، وأول قاعدة عسكرية خارجية لليابان منذ الحرب العالمية الثانية، وأهم وحدة عسكرية فرنسية في أفريقيا، كما تضم قواعد لإسبانيا وإيطاليا.
– يرتبط الاتفاق بتغيير الوضع في منطقة البحر الأحمر التي تعدّ منطقة فائقة الأهمية والتأثير في مستقبل المنطقة والعالم، وهي ممرّ مائي يعتبر محور ربط تتلاقى فيه مصالح متقاطعة ومختلفة لقوى دولية وإقليمية متنوّعة. وبالتالي فإنه من المتوقّع أن يفضي أي تغيير في الوضع القائم إلى تدخّلات دولية وإقليمية للحيلولة من دون الإضرار بمصالحها.
فإذا أصبحت إثيوبيا قوة بحرية رئيسية في البحر الأحمر، فقد تزيد بشكل كبير من نفوذها وأهميتها لبعض البلدان، مثل الإمارات العربية المتحدة وكيان الاحتلال والولايات المتحدة.
– يعدّ الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال، تجسيداً لحالة الاضطراب التي تعيشها منطقة القرن الأفريقي خلال السنوات الأخيرة بـفعل تحالفات معلَنة وأخرى غير معلَنة بين قوى إقليمية ودولية تتسابق لامتلاك النفوذ بالمنطقة.
وبالتالي فإن أي محاولة تغيير في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، قد تنتهي إلى مواجهات عسكرية مباشرة بين دول المنطقة، أو غير مباشرة بين قوى دولية، وقد باتت هذه المنطقة تحظى بأولوية كبيرة في مساعيها لتمديد نفوذها والسيطرة على محاور التجارة العالمية.
– لا يمكن فهم تبعات الاتفاق بمعزل عن التطورات الحاصلة في السودان وغزة واليمن، وتشكيل تحالفات بحرية جديدة في منطقة مكتظة بالوجود العسكري، وهو ما يعدّ مؤشّراً على اتجاه الأمور إلى التصعيد والتوتر الذي قد يفضي لمواجهات عسكرية أو تنامي الاضطرابات الأمنية، في ظلّ ما تعانيه المنطقة من هشاشة سياسية وأمنية في العديد من دول المنطقة.
– هناك تقدير أشار إليه معهد “ال اي سي” البريطاني للدراسات الأفريقية، بأن تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد بتاريخ 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بأن بلاده تحتاج إلى الوصول إلى ميناء على البحر الأحمر، قد تكون بالإضافة إلى مذكّرة التفاهم الحاصلة بمثابة رسالة تجنيد “للجماعات الإرهابية” في المنطقة وتحديداً في الصومال.
ففي 11 شباط/فبراير الجاري؛ أعلنت حركة “الشباب” مسؤوليتها عن الهجوم الذي أسفر عن مقتل 4 جنود إماراتيين وضابط بحريني أثناء قيامهم بمهمة تدريب في قاعدة عسكرية بالعاصمة الصومالية. يشار إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة تعدّ الدولة الوحيدة التي تتعامل مع أرض الصومال كدولة مستقلة، كما أنها تدير ميناءها الهامّ على البحر الأحمر من خلال عقد تمّ توقيعه في عام 2016 ويسري لمدة 30 عاماً باستثمارات تقدّر بنحو 442 مليون دولار لتعزيز البنية التحتية اللوجستية للميناء.