إيران وفلسطين.. مشروع مذهبي أم إلتزام عقائدي!
موقع قناة الميادين-
أحمد عبد الرحمن:
يمكننا أن نقول وبتجرّد تام أننا لا نرى أن إيران سعت لتحقيق أي مكاسب من خلال دعمها الشعب الفلسطيني، ولم تسعَ في يوم من الأيام لنشر التشيّع في أوساط الفلسطينيين مع أنها كانت تستطيع ذلك.
بالنسبة لبعض المهتمين، قد يبدو الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية، سواء الرسميّ منه أم الشعبي مستغرباً، وربما يبدو لبعضهم الآخر مريباً ومثيراً لكثير من الشكوك والشبهات، ويرى هؤلاء، والذين هم جزء من فريق كبير، أن إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني عام 1979، بدأت في استغلال ارتباط الأمتين العربية والإسلامية بفلسطين وقضيتها، لتحقيق مكاسب وفوائد تصب في مصلحة انتشار وتوسّع مشروعها المذهبي بالدرجة الأولى، ثم إيجاد موطئ قدم لها في دول وبلدان كانت في منأى عن نفوذها منذ أمد بعيد، وهذا الموقف ينسجم تماماً والموقفَين الأميركي والصهيوني المعاديين والمناوئين لإيران ولفلسطين.
ومن الملاحظ أن هذا الفريق الذي تقوده وتموّله دول إقليمية وعالمية وازنة، استعمل كل الوسائل والإمكانيات التي يملكها، وهي كثيرة لتعميم وجهة نظره تلك، إذ أنشأ من أجل ذلك المؤسسات، وأطلق القنوات، وأصدر المناهج والدراسات، وجيّر الدين والثقافة والفن وأشياء أخرى للتدليل على صحة ما يقول، وقد وجدت تلك النظرية التي تُشرف على تسويقها غُرف عمليات أمنية واستخبارية كبيرة من يقتنع بها، ويبني مواقفه بناءً عليها، بل وتجاوز بعض السذّج والمغرّر بهم مسألة الاقتناع بتلك الفكرة على المستوى النظري، إلى القيام بممارسات على الأرض ضد كل من يرى عكس فكرتهم، أو يحمل توجهاً مخالفاً لتوجههم، مستخدمين في ذلك العنف الجسدي والإرهاب الفكري وغير ذلك من أدوات بشعة.
يتكرر الأمر مرات عديدة وبشكل يومي عبر وسائل إعلام الفريق المعادي لإيران وفلسطين، ولا تكاد تجد نشرة لموقع إخباري أو صحيفة إلكترونية أو قناة تلفزيونية إلا وتطرح الأفكار الفتنوية والمعادية، وتحاول تجيير أي خطأ هنا أو هناك للاستدلال على صحة موقفها وصوابيه توجهها.
وعلى المقلب الآخر فريق يحمل وجهة نظر مغايرة تماماً لوجهة نظر الفريق الأول، إذ ينظر هذا الفريق إلى الموقف الإيراني من فلسطين تحديداً، ومن باقي قضايا الأمة عموماً بصورة مختلفة، ويرى أن الجهد الإيراني الكبير والمؤثّر ساهم بقوة في صمود الشعب الفلسطيني في وجه حرب الإبادة التي تعرض لها وما زال يتعرض، وأنه لولا الدعم الإيراني السياسي والعسكري والإعلامي والمالي لكانت حال القضية الفلسطينية أسوأ بكثير مما هي عليه اليوم، وأن ما باتت تشكّله المقاومة الفلسطينية اليوم من قوة حقيقة على الأرض، وتستطيع من خلاله إلحاق الهزيمة بالعدو وكسر شوكته ما كان ليتحقق لولا الدعم الإيراني الكبير.
ويمكننا أن نستشهد في هذا المجال بحديث للسيد يحيى السنوار، قائد حركة حماس في قطاع غزة، قال فيه: “نحن نراكم ونطوّر قوتنا العسكرية التي تضاعفت من أجل تحرير فلسطين والعودة، وإيران هي الداعم الأكبر بالمال والسلاح والتدريب، والدعم الإيراني استراتيجي”.
وحتى تتضح الصورة أكثر دعونا نضع العلاقة بين إيران وفلسطين في ميزان الربح والخسارة لكلا الطرفين، ولا أقصد باستخدام مصطلح الربح والخسارة الجانب المادي فقط من تلك العلاقة، بل كل الجوانب التي تُحيط بها على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري والمعنوي وغير ذلك، ولننظر من دون تحيّز لهذا الطرف أو ذاك من الذي استفاد من الآخر، وما هو حجم تلك الاستفادة، وهل كانت تلك الاستفادة حيوية ومؤثرة بالنسبة إلى الطرف المستفيد أم لا!
وأنا في الحقيقة قبل أن أبدأ باستعراض بعض النقاط أعرف أن حقيقة العلاقة بين الجمهورية الإسلامية في إيران وفلسطين وشعبها لا تُقاس من خلال هذا الجانب، ولكنني سأطرح الموضوع من هذا المنظور حتى نصل إلى نتيجة تكشف زيف ادعاءات الفريق الأول، وتُثبت في المقابل صوابيه طرح الفريق الثاني، ومن أجل ذلك سنذكر باختصار بعضاً ممّا قدمته إيران للقضية الفلسطينية، وفي المقابل ماذا استفادت من وراء ذلك:
1- الدعم السياسي: إذ يمكن وصف الدور الإيراني في هذا الإطار بأنه محوري وحاسم وفاعل، فإيران ومنذ اليوم الأول للثورة الإسلامية قطعت علاقاتها الدبلوماسية بالكيان الصهيوني التي كانت قائمة إبّان حكم الشاه، وسلّمت السفارة الإسرائيلية في طهران لمنظمة التحرير الفلسطينية ورفعت عليها العلم الفلسطيني، وتولى السيد هاني الحسن مهمته كأول سفير لفلسطين في إيران، يومذاك قال السفير الفلسطيني في بيروت السيد أشرف دبور “لقد حرّرت إيران أول قطعة أرض فلسطينية برفعها أول علم لفلسطين في طهران، بعد ذلك بسبعة أيام فقط زار الشهيد ياسر عرفات إيران، حيث استُقبل فيها استقبال الأبطال.
ومن أوجه الدعم السياسي أيضاً أن إيران لا تعترف بشرعية الكيان الصهيوني على أي جزء من أرض فلسطين التاريخية، وطالبت وما زالت بتجريم احتلال “إسرائيل” أراضي الشعب الفلسطيني في كل المحافل والهيئات الأممية، ولديها موقف واضح ومعلن برفض كل الاتفاقيات التي وقعتها الدول العربية والسلطة الفلسطينية مع “إسرائيل”، أضف إلى ذلك قيامها بتنظيم المؤتمرات واللقاءات الداعمة للقضية الفلسطينية، وتحاول بكل قوة حشد كل الطاقات الممكنة لدعم فلسطين وشعبها، وربما أهم من كل ذلك إعلان “الإمام الخميني” تخصيص الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك من كل عام يوماً لدعم ومساندة الحقوق الفلسطينية في وجه المحتل الصهيوني، بعنوان “يوم القدس العالمي”، وقد أصبح هذا اليوم علامة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، إذ يشهد حركة تضامن عالمية مع الحقوق الفلسطينية لا تكاد تتكرر في مناسبات أخرى، كذلك أقرّ البرلمان الإيراني قانوناً لدعم انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1990، حيث بات دعم الشعب الفلسطيني مرسّخاً بنص دستوري وقانوني.
2- الدعم العسكري: ربما يكون هذا النوع من الدعم هو الأكثر تأثيراً في مجريات الأمور في الأراضي الفلسطينية، خصوصاً في ظل حالة الاشتباك الدائم مع العدو الصهيوني، إذ إن الدعم الإيراني العسكري ساهم بدرجة كبيرة في ما وصلت إليه المقاومة الفلسطينية في السنوات العشر الأخيرة تحديداً، وبدت آثار ذلك الدعم جليّة من خلال التطور الكبير والواضح على أداء فصائل المقاومة في فلسطين، لا سيما على صعيد زيادة منسوب الخبرة القتالية، وتطور الإمكانيات التسليحية، وصولاً وهو الأهم من وجهة نظري إلى تمكّن المقاومة الفلسطينية من تصنيع جزء مهم من وسائلها القتالية كالصواريخ والقذائف داخل قطاع غزة تحديداً.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تُعدّ إيران الدولة الوحيدة التي أرسلت إلى المقاومة الفلسطينية صواريخ متوسطة المدى قادرة على قصف المدن الصهيونية التي تبعد عن غزة أكثر من70 كيلومتراً، وكان قصف “تل أبيب” في عدوان 2012 بصواريخ “فجر 5” الإيرانية شاهداً على ذلك، كذلك زودت إيران المقاومة في غزة صواريخ “كورنيت” المضادة للدروع التي شكّلت هاجساً كبيراً لقوات الاحتلال التي تعمل منذ سنوات لمحاولة الحد من آثارها من خلال تركيب منظومات مضادة لها على المدرعات والدبابات الصهيونية على غرار منظومة “معطف الريح”، وإقامة السواتر الخرسانية والترابية لعرقلة عملها.
إضافة إلى ذلك زوّدت إيران المقاومة في قطاع غزة بندقيات قنص ذات مدى يصل إلى 2000 متر تقريباً، وهي من أقوى بندقيات القنص على مستوى العالم، وقد شاهدنا عدداً من العمليات النوعية التي نفّذت بها على حدود القطاع، كذلك ساهمت إيران في إمداد المقاومة بإمكانيات وخبرات مكّنتها من حفر الأنفاق الدفاعية والهجومية بأحجام ونوعيات لم تكن معروفة من قبل، حيث كان لهذه الأنفاق دور مهم وفاعل في تنفيذ عدد من العمليات النوعية خلف خطوط العدو في عدوان 2014 على غرار عملية “ناحل عوز” ومعبر “بيت حانون” وموقع 16 وغيرها، شكلت حينذاك مفاجئة للاحتلال من العيار الثقيل.
وعلى صعيد متصل أيضاً تلقى مئات المقاومين الفلسطينيين دورات تدريبة متقدمة بإشراف خبراء إيرانيين، سواء على الأراضي الإيرانية أو في مناطق أخرى، وهذه الدورات كان لها تأثير كبير في قدرات هؤلاء المقاومين، وانتقلوا من خلالها من هواة إلى درجة قريبة من الاحتراف، مع الإشارة أيضاً إلى الدور الإيراني المهم في مجال الطيران المسيّر الذي باتت تملكه المقاومة، وهذا السلاح تحديداً ينظر إليه العدو بدرجة عالية من التخوّف والحذر، نظراً إلى تأثيره الكبير في ساحة المعركة، وقد استُخدم في غير مواجهة مع العدو وإن بصورة محدودة حتى الآن.
3- الدعم الإعلامي: تُولي وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية والخاصة القضية الفلسطينية اهتماماً كبيراً، وتتابع عن كثب كل ما يجرى من تطورات بخصوص هذا الملف، والبرامج والندوات واللقاءات التي تتحدّث عن فلسطين، ومظلوميتها لا تكاد تنقطع عن الشاشات والمواقع والصحف الإيرانية، إضافة إلى وجود عدد كبير من المراسلين الذين يعملون لمصلحة القنوات الإيرانية في كل المدن الفلسطينية، وتغطية الأحداث والتطورات في تلك المدن لا تتوقف، كذلك تقدم إيران دعماً مادياً مهماً للقنوات التلفزيونية الفلسطينية، والمؤسسات الإعلامية المختلفة، لا سيما تلك القريبة من فصائل المقاومة، وتكاد تتحمل الجزء الأكبر من نفقاتها التشغيلية، ورواتب موظفيها والتزاماتها الأخرى.
4- الدعم المالي: في هذا الجانب الحيوي والمهم تبذل إيران جهداً كبيراً على غير صعيد، فهي وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية التي تعانيها نتيجة الحصار والعقوبات، تخصص جزءاً مهماً من ميزانيتها لدعم الشعب الفلسطيني بمختلف فئاته، فإضافةً إلى الدعم الكبير الذي تخصّصه لفصائل المقاومة على اختلاف مسمياتها، تقدم مساعدات دورية لذوي الشهداء والأسرى والجرحى، وللأسَر التي تهدّمت مساكنها جراء العدوان الصهيوني، هذا بخلاف مساعدات أخرى في مجالات مختلفة لا يتسع المجال لذكرها، مع الإشارة أيضاً إلى استقبالها المئات من جرحى المقاومة الفلسطينية في مستشفياتها ومراكزها الطبية، وتقديم كل ما يلزم من علاج لهم خصوصاً على مستوى تركيب الأطراف لمن يعانون عمليات بتر جراء العدوان، وكذلك علاج الحروق والعيون، وكل ذلك على نفقة الجمهورية الإسلامية.
في مقابل كل ما أشرنا إليه من مواقف ومساندة ومساعدات قدمتها إيران وما زالت للقضية الفلسطينية، يا ترى ما الفائدة التي تحصّلت عليها، وفيمَ أفادتها هذه العلاقة التي مر عليها أكثر من 42 عاماً، وهل فعلاً استغلت كل ما تقدّمه من دعم لنشر المذهب الشيعي في فلسطين، كما قيل، أم هي اخترقت من خلال هذه العلاقة ساحات عربية وإسلامية كانت موصدةً في وجهها كما يقول الآخرون!
في الحقيقة يمكننا أن نقول وبتجرّد تام أننا لا نرى أن إيران سعت لتحقيق أي مكاسب من خلال دعمها الشعب الفلسطيني، ولم تسعَ في يوم من الأيام لنشر التشيّع في أوساط الفلسطينيين مع أنها كانت تستطيع ذلك، ولم تمارس الابتزاز المالي تجاه الفصائل التي تدعمها للحصول على مواقف سياسية أو إعلامية قد تستفيد منها، حتى الذين خالفوها في مسائل معينة لم تقطع العلاقة بهم ولم تمنع عنهم مساعداتها.
وربما نذهب أبعد من ذلك لنقول إن إيران حُوربت واتُهمت وحوصرت جراء دعمها لفلسطين، حتى داخلياً واجه النظام الإسلامي انتقادات عديدة بسبب ذلك الدعم، وما زلنا نذكر الشعار الشهير الذي رُفع في التظاهرات التي أعقبت انتخابات 2009 والذي يقول: “لا غزة ولا لبنان روحي فداء لإيران”، وفي اعتقادنا لو تخلت إيران عن هذه القضية، كما فعل معظم العرب، لما تعرّضت لكل تلك المشكلات والصعوبات.
ختاماً نقول إن محاولة تشويه الموقف الإيراني المتكررة من فلسطين، الذي نستطيع أن نصفه بالعقائدي، قد بدأت تتضعضع وتتراجع، وبدا أصحابها، خصوصاً أصحاب الفكر التكفيري، ينكشفون أمام جماهير الأمة، وباتت الجهود التي يقومون بها في هذا الجانب، وينفقون من أجلها مليارات الدولارات تذهب أدراج الرياح، ولا تجد لها صدى يُذكر في أوساط الشعوب التي بدأت تُدرك وتفهم مغزى الموقف الإيراني من فلسطين وشعبها وباقي قضايا الأمة العادلة والمحقّة.