إيران والصعود الأحادي في الإقليم
صحيفة الوفاق الإيرانية-
ناصر قنديل:
قبل عشرين عاماً فقط كان جورج بوش الداخل إلى البيت الأبيض في ظلّ سيطرة أميركية أحادية على العالم بغياب روسيا والصين عن المشهد الدولي، يدخل بقواته الى كل من العراق وأفغانستان واضعاً إيران بين فكي كماشة آملاً بإخضاعها وتطويعها، وفق معادلة الجزرة والعصا. وكان في المنطقة التي تشكل البيئة الإقليمية لإيران، أطراف صاعدة وازنة.
– كان في وسط المنطقة كيان الاحتلال يتصرف رغم هزيمته في جنوب لبنان واندلاع انتفاضة الأقصى أنه وكيل القوة العالمية العظمى، وأنه يملك فائض قوة كاف لفرض معادلة للردع تحفظ له دور شرطي المنطقة، وكان في جنوبها حضور المملكة السعودية تتسيد المشهد العربي بقوتها المالية وموقعها الديني وعلاقتها المميزة بواشنطن، وتسليم بزعامة المملكة السعودية للعالمين العربي والإسلامي. وكان في الشمال صعود لنموذج تقدمه تركيا في نهوض اقتصادي وتطلع سياسي للعب دور في الإقليم تحت عنوان إحياء تاريخها الإسلامي بعدما سدت في وجهها أبواب الدخول الى الاتحاد الأوروبي.
– ليس مهماً الآن أن نقدم السردية الكاملة لما جرى في هذين العقدين، بل يكفي النظر الى الحال الراهن ومكانة كل من واشنطن وتل أبيب والرياض وأنقرة، فيكفي القول وفقاً لمفهوم الصراعات الإقليمية والدولية، أن واشنطن خسرت رهان حربي العراق وأفغانستان، وخسرت حرب الملف النووي مع إيران مرتين، حتى يمكن القول إن إيران كانت الحاضر الأكبر في خلفية التغييرات التي اصابت السياسات الأميركية خلال هذين العقدين، وتل أبيب خسرت كل حروبها أمام قوى المقاومة التي تشكل إيران عمقها الاستراتيجي، وصولاً الى الخسارة الأهم في معركة سيف القدس، وها هي التغييرات التي يعيشها كيان الاحتلال على المستوى السياسي ويترجمها بطي صفحة آخر الزعماء الكبار، بنيامين نتنياهو، يغادر المسرح تفادياً لمواجهة قد تنتهي بحرب مع إيران، أما السعودية فقد خسرت حرب اليمن التي خاضتها تحت شعار إقصاء إيران وتحجيمها، بعدما خسرت رهانها على الحرب ضد سورية ووضعت شرطاً لوقفها هو إنهاء العلاقة السورية الإيرانية وفشلت، وهي اليوم تسعى لوقف حرب اليمن بشروط لا تتصل بالحضور الإيراني بل تقوم على التسليم به شريكاً في الحل، وقد سلمت بخسارة الحرب على سورية وتسعى للتأقلم مع نتائجها، وفي طليعتها انتصار التحالف السوري الإيراني، فيما توقف الصعود التركي عند حدود الرهان على الحرب على سورية، وانعطف نحو البحث عن سبل تفادي المواجهة مع إيران وروسيا، وارتضى الانضواء ضمن تموضع جديد ترعاه موسكو وطهران، هو مسار أستانة، وارتضى التأزم في علاقته بواشنطن لتثبيت معادلة تشكل خلالها إيران ركيزة تجارية واستراتيجية للدور التركي الذي يعاني الكثير من التراجعات بعد انكسار مشروع العثمانية الجديدة مع خروج الأخوان المسلمين من الحكم في مصر وتونس على خلفية فشلهم في سورية.
– في قلب هذا الصعود الاستراتيجي الأحادي لإيران، في مقابل تراجع استراتيجي أميركي، وتراجع موازٍ لحلفاء واشنطن، نجحت إيران ببناء شبكات تعاون مع حركات المقاومة الصاعدة في المنطقة، في العراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن، وبالتوازي قامت بتشبيك عسكري مع روسيا تعبر عنه شبكات الـ أس 400 الممتدة من الصين الى الهند الى تركيا وسورية وروسيا، بحيث تصبح آسيا والبحار والمحيطات المطلة عليها، تحت نظر الرادارات، وأنجزت إيران تشبيكاً آخر مع الصين جعلها قلب منظومة الصين المسماة بالحزام والطريق، والتي تغطي مساحات آسيوية تشمل باكستان وشرق آسيا، وبنت إيران منظومة تكنولوجية في قلبها لقاح كورونا وتقنيات النانو وتطورات الملف النووي، وبرامج الصواريخ والأقمار الصناعية، ما يضع إيران كدولة أولى بلا منازع في المنطقة، وهي الواقعة في قلب آسيا وتملك حدوداً برية وبحرية مع أكثر من عشرين دولة من دولها، في ظل اكتفاء ذاتي زراعي أهم ما فيه الاكتفاء في زراعة القمح واللحوم والخضار والفواكه، لضمان سلّة غذائية كافية لسكانها الذين يقاربون المئة مليون نسمة.
– تذهب إيران لانتخاباتها الرئاسية، على خلفية كل هذه الصورة، لتقدم تفوقاً آخر في مسار بناء دولتها، فهي تنظم بمثابرة مواسمها الانتخابية البرلمانية والرئاسية، وقد صنعت لنظامها إطاراً حياً للتنافس بين كتلتين تشبهان تناوب وتنافس الحزبين الديمقراطي والجمهوري في أميركا، وحزبي العمال والمحافظين في بريطانيا، ويثبت مع هذه الانتخابات أن الثنائية وجدت طريقها رغم كل التعقيدات، وأن تداول السلطة السلمي يجري مع كل موسم انتخابي، بين الإصلاحيين والمحافظين، في منطقة يصعب على غير إيران فيها مجاراتها بهذا المستوى من الممارسة الديمقراطية الجدية والمنتظمة، حيث يشكل ذلك تحدياً يصعب تجاهل تفوّق إيران في خوضه بالمقارنة مع كل ما يجري في طريقة تكوين السلطات الحاكمة في المنطقة.