إنها لحظة القطع: “نحن قادرون”
موقع إنباء الإخباري ـ
بتول زين الدين:
إنها القوانين الأكثر قوة والأكثر نفوذاً في المجتمعات، ولذلك فإن الخروج عنها ومواجهتها قد يلحق عاهةً وعاراً يلتصق بهذا الفاعل أو يعرض حياته للخطر، ولهذا الأمر الكثير من الأمثلة في تاريخنا العربي خصوصاً في أيام المجتمع الجاهلي: إنها الأعراف، العادات والتقاليد الإجتماعية المستحكمة.
ففي الدين ، نذكر كم عانى سائر الأنبياء حين دعوا للتوحيد، لعبادة الله الواحد الأحد ورجم الأصنام النفسية والمادية.
وفي العلم، ثمة لحظات قطع لا عودة معها للوراء، سماها توماس كون “براديغم” أي نموذج مرجعي جديد يدحض ما قبله. فلم يكن إكتشاف دوران الأرض إكتشافاً عادياً. وحين تم تكذيبه، بل وبينما هو يقتل، قال غاليله :حتى لو قتلتموني لن تتوقف الأرض عن الدوران!
وهكذا إقترنت كل نظرية بمكتشفها، فبتنا نقول “جاذبية نيوتن” و”نسبية أينشتاين” وغيرها من النماذج المرجعية التي تعد مفصلية في تاريخ البشرية.
كذلك هو الأمر في القضايا المصيرية: “نحن قادرون”، كلمة أطلقها محقق حلم الأنبياء روح الله الخميني. كلمة أعتبرها البعض فرضية، آنذاك فيما شكك البعض الآخر بصوابيتها.
من “نحن مهزومون” إلى “نحن قادرون”
إنه الخامس والعشرون من أيار من العام ٢٠٠٠، يوم خضعت فيه “الفرضيّة” تلك للاختبار، فتحوّلت إلى نظرية بل مدرسة عسكرية ونموذج مرجعي جديد.
فقبل بداية الألفيّة الثالثة كانت المقدمة الأولى في الأطروحة السياسية للعرب: “نحن مهزومون”، وبناءً على الهزيمة فلنعوّض، بالكلام على فلسطين. فتحولت المقدمة إلى: “نحن قادرون”، مقدمة دحضت معها أقوال كثيرة منها “العين لا تقاوم المخرز”، “قوّة لبنان في ضعفه”، فباتت قوّة لبنان في مقاومته بعد تحقيق الانتصار.
أما في ذاك اليوم فقد فهم العالم المنهج الذي أراد أن يرسيه الخميني(قدس) في قضيّة المقاومة. فحين أعلن الإمام أن شباب حزب الله حجّة على العالم، لم تكن مقاربته تعتمد على العدد والعديد والقوة المادية، بل على ذلك السلاح الذي لا يقبل الهزيمة: سلاح الإيمان. فكان التحرير مثالاً واضحاً طبق فيه ما جاء في القرآن الكريم من توازن المعنويات والماديات.
قبل ذاك الانتصار كان “النموذج المرجعي” لمقارعة ومقاومة الاحتلال والاستعمار: “أساوم إذاً أنا موجود”، حتى وضع قائد الانتصار “نصر الله” قاعدة النصر الإلهي في نموذج مرجعيّ جديد مفاده “أقاوم إذاً أنا موجود”. وبعد هذا النموذج، الذي كان عقول المقاومين يقود، لم يعد سهلاً على المحتل اختراق الحدود، وباتت فلسطين بأكملها تحت مرمى أعين المقاومة بانتظار اليوم الموعود.
أفاوض إذاً أنا مفقود
“أقاوم إذاً أنا موجود” معادلة دحضت فرضيّة التزلف والخنوع والانكسار، وتغيرت معها مفاهيم هذه الفرضية، وبات التفاوض يعني “اللاوجود”، وبعد أن أطاحت بكل أسس الاستسلام والضعف اختصرت بالمقاومة معنى الوجود، أي وجود؟ وجود دعائمه الكرامة والشرف والإباء، وجود أخذ دروساً من كربلاء، وطبقها في عالم لا يفكر إلا بمنطق القوة، ولا يحترم إلا الأقوياء.
إذاً تمخض أيار وتموز فولّدا بطلاً إسمه “إنتصار”. تجلّى أعظم إنتصارين بعد توفر عنصري الإيمان والإرادة من جهة وآداء المقاتلين وكفاءتهــم في استعـمال السـلاح من جهة أخرى، فباتت المقاومة القدوة والخيار..
الرماية لله
بين الطمأنينة التي ينعم بها الفؤاد حين يكون مدركاً أن الله هو الرامي، وقلب مضطرب لا يبصر النور، بين يد متوضئة ثابتة، ويد مرتجفة لا مجال للمقارنة. فالجهاد باب من ابواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، لأولياء أياديهم إلهية وأعينهم إلهية، وبالتالي، الله ينصرهم ويدافع عنهم: “إن الله يدافع عن الذين آمنوا”.
نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصرعملية شيحين التي سقط فيه تسعة قتلى إسرائيليين، كانت العبوة معطلة، ومزروعة منذ ثلاث سنوات، ولكن الله أراد لها أن تنفجر في ذاك التوقيت موقعة هذا العدد من القتلى، تلك العملية التي صرّح على إثرها رئيس الوزراء آنذاك اسحق رابين بالجملة المشهورة: “لقد هزمنا حزب الله”..
كما جاء أيضاً في أحد التصاريح الاسرائيلية قبيل التحرير: “انسحبنا من جنوب لبنان لأن فيها سحراً يقوم به حسن نصر الله”.
نعم، ذاك السحر هو سحر الإيمان، إيمان عبّر عنه سماحته في محنة تموز “أنتم تقاتلون أبناء محمد وعلي والحسن والحسين وأهل بيت رسول الله وصحابة رسول الله. أنتم تقاتلون قوما يملكون إيماناً لا يملكه أحد على وجه الكرة الأرضية”.
إنهم ليوث حيدر، وذاك الإيمان إستلهموه منه، إيمانٌ، ترجم بقوّة اقتلع بها باب خيبر، فيما عجز بها عن كسر رغيف خبز من الشعير، لأن الله فتح على يديه في تلك المعركة كما يقول حبيب الله”يفتح الله على يديه”. ففي الوقت الذي كان باب خيبر يحتاج لحشد من الرجال لإقتلاعه، اقتلعه علي بن أبي طالب عليه السلام، لأن علي رجل إلهي وبالتالي رميته رمية إلهية. والحال نفسه في الخندق حين اجتمع الكفر كله على الإيمان كله، حين عادلت ضربة علي عمل الثقلين إلى يوم القيامة.
كذلك في أيار التحرير وتموز الإنتصار ، كانا نصراً الهياً. الله هو الذي انتصر في أيار وتموز كما في الخندق وبدر وخيبر، فتلك كلها أيام لله :”فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى”.
“وذكّرهم بأيام الله”..
نستحضر هذه الآية الكريمة، ونتذكر تلك الأيام حتى نستذكر تلك النعم التي وهبنا الله إياها فنطورها. نتذكر أيام المأساة والحرمان والجهل لندرك أهميّة أيام النصر والإرادة والمقاومة، نتذكر الأيام التي كان يضطهد فيها العزّل ويُعتدى على النساء، لكي نحافظ اليوم على وحدتنا.
“ذكّرهم بأيام الله”، لنستعيد أسمى معاني الجهاد في هذا اليوم، “يوم المقاومة والتحرير”، ليس ذاك الجهاد الذين يدمرون فيه الآخر المختلف، ليس جهاد الذين يقتلون النساء والأطفال، ويروّعون المدنيين، ويذبحون، ويقطعون الرؤوس، وينكلون ويمثّلون بالجثث، ليس جهاد الذين لا تعيش في قلوبهم الرحمة والإنسانية. بل هو جهاد لتحرير الأرض، والإنسان، والمقدسات، هو جهاد لرفع الظلم والطغيان، هو جهاد لإعادة الحق إلى نصابه عندما يحتاج الحق إلى قوة الأقوياء.
“ذكّرهم بأيام الله”، فنحبط كل محاولات النيل من ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، ونحافظ على هذا اللجام الذي غيّر المعادلات، نستذكر كل هذا لنؤكد أن هذا هو النموذج في مواجهتنا التي لن تتوقف مع هذا العدو، وندرك كيف نكون الممهدين ليوم الله الأعظم مع دولة صاحب العصر والزمان.
وكما قال الأمين على الدم هذا العام: “يوم 25 أيّار 2000 هو بحق يوم من أيّام الله تعالى، تجلت فيه رحمة الله وبركاته ونصره وتأييده وكرمه وجوده لشعبنا الصابر والمقاوم، وتجلّى فيه غضب الله وسخطه وقهره واقتداره على الصهاينة الذين احتلوا واعتدوا وأذلّوا وقهروا، فكان انتصارنا يوماً من أيّام الله، وكانت هزيمتهم التاريخية يوماً من أيّام الله. مثل هذا اليوم الذي صار عيداً للمقاومة والتحرير يجب أن يبقى حيّاً في ذاكرتنا وينتقل من جيلٍ إلى جيل”.