إنعكاسات التوتر الروسي- التركي على سورية
وكالة أنباء آسيا-
محمود عثمان:
يعود أصل النزاع الأوكراني الروسي على شبه جزيرة القرم إلى عام 1954 عندما ضمها الزعيم السوفييتي الأوكراني الأصل، نيكيتا خروتشوف، إلى أوكرانيا التي كانت إحدى الجمهوريات السوفييتية.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وانفصال الجمهوريات السوفييتية ومنها أوكرانيا عن الاتحاد أصبحت القرم جزءًا من أوكرانيا المستقلة. لكن روسيا أبقت على قاعدتها العسكرية في القرم التي تؤمّن وصولها إلى البحر المتوسط، وتعتبر وجود قواتها على شبه جزيرة القرم قانونيًا، بينما تعتبره أوكرانيا احتلالًا.
شهدت أوكرانيا في نهاية عام 2013، أزمات سياسية متصاعدة، تطورت فيما بعد إلى انتفاضة شعبية ضد حكومة الرئيس فيكتور يانكوفيتش الموالية لروسيا، حيث تمكنت انتفاضة الأوكرانيين من الإطاحة بالرئيس يانكوفيتش، ونجحت في إعادة العمل بدستور 2004 الذي يعزز من سلطتي البرلمان ورئاسة الحكومة.
ثم جاء الإفراج عن يوليا تايموشنكو، تتويجا لنجاح ثورة الأوكرانيين، وإعلانا عن خروج البلاد من المنظومة الروسية، وإيذانا بدخولها في الفلك الأوروبي.
وبينما ذهبت الدول الغربية إلى اعتبار ما جرى ثورة دستورية معبرة عن تطلعات الشعب الأوكراني في بناء دولته الحديثة على أسس ديمقراطية وفق النموذج الغربي، بالتخلّص من الإرث الروسي، فإنّ روسيا اعتبرته انقلاباً يمينياً متطرفاً.
بتاريخ 27�22014 ردت روسيا على الإطاحة بالحكومة الموالية لها، بتدخل عسكري مباشر، تمثّل باحتلال شبه جزيرة القرم، من خلال دخول القوات الروسية إلى منطقتي لوهانسك ودونيتسك، وإعلان قيام جمهوريتين شعبيتين، بهدف تثبيت الجماعات الانفصالية الموالية لها عسكرياً، وإكسابها صفة شرعية.
عقب ذلك نفذت القوات الروسية انسحابا ظاهريا، لكنها تمركزت في الجهة المقابلة من الحدود، ليستمر دورها بشكل غير مباشر، في تدريب وتمويل وإدارة عمليات الانفصاليين، وتزويدهم بالأسلحة الثقيلة والعناصر المقاتلة.
أدّت الإطاحة بالحكومة الموالية لروسيا، إلى حالة نزاع مسلّح داخل أوكرانيا وعلى حدودها، مترافقاً بتصعيد متتالٍ من قبل الأطراف المعنية. لكن التصعيد الروسي الأخير، والحشود العسكرية الضخمة على الجهة المقابلة من حدودها مع أوكرانيا، بات ينذر باحتمال تطور الأمور إلى حرب تشمل كافة الأراضي الأوكرانية، بل ويزداد القلق في الجانب الأوكراني بأن يكون السلوك الروسي تمهيداً لإزالة الدولة الأوكرانية نهائياً وإعادتها للحاضنة الروسية.
أوكرانيا تشكل بؤرة التنافس الأميركي الروسي
يتهم الغرب روسيا بنشر ما يصل إلى 100 ألف جندي عند الحدود مع أوكرانيا، ويتوعد بفرض عقوبات غير مسبوقة في حال حدوث غزو جديد للبلاد بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014.
وتطالب واشنطن ومعها الأوروبيون، بانسحاب القوات الروسية وإحياء اتفاقات مينسك التي يُفترض أن تنهي النزاع في دونباس بشرق أوكرانيا بين كييف والانفصاليين الموالين لروسيا.
في الجهة المقابلة تطالب موسكو بوضع حد لتوسيع حلف شمال الأطلسي عند حدودها، وتقليص عدد العسكريين التابعين للحلف في أوروبا الشرقية. بتعبير آخر تسعى موسكو إلى استعادة إرث الاتحاد السوفييتي بعد أن أصبحت غالبية دول أوروبا الشرقية عضوا في حلف الناتو.
ثمة نقاط ساخنة أُخرى محل خلاف بين الطرفين، فقد انتقدت الولايات المتحدة نشر قوات روسية لدعم حكومة كازاخستان التي تواجه أعمال شغب، بعدما كانت شككت أيضا بالدعم الذي قدمته روسيا لرئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، إثر إعادة انتخابه المثيرة للجدل، وكذلك السلوك الروسي حيال أزمة المهاجرين الأخيرة مع أوروبا.
كذلك، ما يزال دعم موسكو الحاسم واللامحدود للرئيس السوري بشار الأسد محل اعتراض أميركي.
وفي إفريقيا، تضغط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتقليص دور مجموعة فاغنر الروسية شبه العسكرية المتهمة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية مالي.
كذلك يبقى ملف نزع السلاح الاستراتيجي، يشكل الهدف الأساسي من “الحوار حول الاستقرار الاستراتيجي” والحد من التسلح بين القوتين النوويتين.
صحيح أن محاولة تجنب نزاع جديد في أوكرانيا، قد شكّلت أحد أبرز مواضيع المحادثات في جنيف بين الولايات المتحدة وروسيا، إلا أنها لم تكن الوحيدة على طاولة المفاوضات بين الطرفين، إذ تكتظ أجندات الطرفين بخلافات عديدة، تتركز حول الأمن في أوروبا، ونزع السلاح الاستراتيجي، وإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى المستوى الذي كانت عليه.
انعكاسات التوتر الروسي-التركي حول أوكرانيا على الحالة السورية
حذرت مصادر تركية من تدهور العلاقة بين أنقرة وموسكو في حال غزو روسيا لأوكرانيا، حيث يستعد حلف شمال األطلسي ”ناتو“ للرد بإجراءات ملموسة ضد روسيا، وذلك من خلال قوة التدخل المحتملة التي تقع قيادتها في تركيا، وكانت قيادة الحلف قد تبادلت معلومات استخباراتية مع الـدول الأعضاء تفيد ببدء الاستعدادات الروسية لغزو أوكرانيا، ما دفع الولايات المتحدة للتباحث مع حلفائها حول الخيارات المتاحة، وسبل توفير الدعم العسكري إلى جانب فرض العقوبات الاقتصادية.
وتتولى تركيا قيادة، قوة المهام المشتركة عالية الجاهزية، إحدى فروع قوة الرد لـ “الناتو”، حيث يضم قيادة لواء المشاة الـ66 التابع لها نحو 4200 جندي، مزودة بعربات مدرعة وصواريخ مضادة للدبابات من الطراز المتطور.
وكان زعماء دول “الناتو” قد اتفقوا على إنشاء قوة عمل مشتركة عالية الجاهزية، خلال قمة ويلز عام 2014، عقب أنشطة روسيا الرامية إلى زعزعة الاستقرار في أوكرانيا، والتوترات بمنطقة الشرق الأوسط. وتكمن الخطورة في تنامي احتمالات اضطرار أنقرة لقيادة جهود التعبئة والتزويد اللوجستي ونقل المعدات العسكرية ضد القوات الروسية، وإدارة فرق الإخلاء بالطائرات والمروحيات.
في هذه الأثناء تتردد في أنقرة انعكاسات تصريح المتحدث باسم الكرملين الروسي، دميتري بيسكوف، والتي انتقد فيها خريطة ”العالم التركي“، التي تسلمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كهدية ً من رئيس حزب ”الحركة القومية“ التركي، دولت بهتشلي، قائلا: “يرعى شركاؤنا الأتراك فكرة الوحدة التركية وهذا أمر طبيعي، والشيء الوحيد الذي يستدعي أسفي هو أن هذه الخريطة التي تضم نجمة حمراء كبيرة في مركز العالم التركي، وهو ليس في تركيا بل في الأراضي الروسية”.
وكانت وسائل إعلام روسية قد انتقدت شمول الخريطة كل من، شبه جزيرة القرم وإقليم الكوبان ومقاطعة روستوف وجمهوريات شمال القوقاز، وشرق سيبيريا، وتزامنت تلك الانتقادات مع تصعيد مكثف للقصف الروسي بالقرب من النقاط التركية شمال غربي سوريا، ففي 13 ديسمبرـ كانون الأول الماضي وسع الطيران الحربي الروسي قصفه ليشمل عموم المناطق الواقعة بالقرب من الحدود السورية-التركية، التي تخضع لاتفاقيات وقف التصعيد، ضمن تفاهمات أستانا، التي انتهت الجولة السابعة عشرة منها قبل أيام من التصعيد الروسي الخطير.
وفي الرابع من شهر ينايرـ كانون الثاني قصفت مقاتلات حربية روسية محيط بلدة البارة بريف إدلب الجنوبي، بالتزامن مع اتصال هاتفي بين الرئيسين الروسي فلادمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، بحثا خلاله العديد من الملفات من بينها الملف السوري.
وفي 21 ينايرـ كانون الثاني أصيب ثلاثة عناصر من الجيش التركي بجروح جراء قصف مدفعي استهدف نقطة المراقبة التركية في بلدة كنصفرة في منطقة جبل الزاوية جنوب إدلب، وذلك في تصعيد جديد من قبل قوات النظام التي نفذت قصفها الجوي بالتزامن مع تحليق الطائرات الروسية في أجواء المنطقة.
الرسائل التي حملها استهداف الطيران الحربي الروسي في شمال غربي سوريا بالقرب من تمركز القوات التركية، تشير بما لايدع مجالا للشك إلى أن موسكو لن تتردد في تحريك الجبهة السورية ضد تركيا، في حالة نشوب اشتباك عنيف في أوكرانيا.
وكان عدد من المسؤولين الروس عبروا عن غضبهم جراء تزويد تركيا لأوكرانيا بالمسيرات القتالية التي أثبتت جدارتها في حسم المعركة بين أذربيجان وأرمينية.
في المحصلة، إن انشغال روسيا بإطفاء الحرائق في محيطها الاستراتيجي، بدول الجوار التي تعتبر حدائق خلفية لموسكو، سوف ينعكس بشكل إيجابي على الملف السوري، حيث ستضطر موسكو للتخلي عن المهم لصالح الأهم. لكن ذلك يبقى مرتبطا بالطرف المقابل القادر والمستعد للضغط على دفع بوتين لجهة التخلي عن بشار الأسد، ذي الكلفة الباهظة والعائد القليل.