إقتصاد مقاوم بعيون عربية
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
في بحث الشعوب العربية عن نموذج الاقتصاد المثال، المناسب لانتشالها من واقعها المزري، والقادر على تحقيق ما تحلم به من انتقال إلى عصر جديد فاتها بالكامل، فإنها وقعت أسيرة محاولة اكتشاف نموذج يصلح للتطبيق على الأرض، يلبي تدافع الأشواق إلى الرقي والتقدم، ويعزز امتلاكها إمكانيات إدارة ثرواتها والاستفادة من أهمية موقعها ومواردها وتسخير طاقاتها الإنسانية، لصالح المستقبل.
وفي قلب عملية البحث عن نموذج للتنمية، فوق ما فيها من أشواق وآمال، فإنها عملية مقاومة نفسية للشعوب بالمقام الأول، تتبنى فكرة الاقتصاد المقاوم، بكل ما يستتبعه من تحديات وما يحمله من فرص، وما يرتبط به من رفض حالة العجز والتأخر المفروضة فرضًا على العالم العربي، ومحاولات متكررة للخروج من قمقم التبعية المقيت، ووقفة جادة في وجه تعميق الشعور السائد بالهزيمة والمناخ المغطى بالإهانة، والذي يراد له أن يستمر ويضغط حتى تتآكل المجتمعات، بعد أن تفتتها الصراعات الخاطئة في الأوقات الخاطئة.
وسط مناخ دولي ضاغط، بفعل صراع يجري على القمة، بين الولايات المتحدة والصين، وتهديدات بدأت تتحول إلى وقائع تضرب اقتصاديات الدول المرتبطة بالغرب والمرهونة بالدولار وسطوته، تتعامل الحكومات العربية مع أزمة لم يصنعوها ولا اكتشفوها، لكنهم يجدون أنفسهم في أول صفوف دافعي الثمن الباهظ، الضامن لاستمرار القوة الأميركية العالمية مهيمنة ومسيطرة، بما يضمن استمرار النزيف العربي.
وبكل تأكيد فإن أزمة الدول العربية، اليوم وأمس وربما غدًا، تتلخص في كلمة واحدة هي “التبعية”، تلك المفردة التي طفت على سطح الاقتصاد السياسي فيما بعد الحرب العالمية الثانية، والتقسيم النهائي للعالم بين عالم متقدم في الشمال، وآخر في الجنوب متأخر، ولعل أفضل من قدم لها التعريف هو العالم سمير آمين، في كتب وبحوث عديدة حول آلية عمل نظام الاستغلال الدولي الحديث.
وفرّق سمير آمين بين اقتصاد المركز واقتصاد الأطراف، بوصف الأول اقتصاد متقدم يعتمد على التصنيع، ويتمحور حول ذاته، ويستطيع تجديد إنتاجه الاجتماعي، وهو اقتصاد مكتف ذاتيًا على صعيد الإنتاج، ويدخل إلى السوق العالمية للتبادل اللامتكافئ مع الأطراف التي لم تنجز تحولها الصناعي الكامل، وتعتمد في المقابل على كفاءة تصدير، وبعض الصناعات الاستهلاكية التافهة، دون امتلاك قاعدة وطنية للسلع الإنتاجية، توفر شروط تجددها محليا، ما يجعله اقتصادًا قائمًا على الغير، ويرتبط بشكل مباشر بالسوق العالمية، ويخدم المراكز قبل أن يوفر لنفسه شروط النمو أو التطور.
وفوق البنية المشوهة لاقتصاد الأطراف التابعة، فإن الاستنزاف الدائم للثروة والموارد، ينتج عجزًا دائمًا عن توفير التمويلات لأي عمليات إنتاج، ما يدفع للاعتماد على الرأسمال الأجنبي الجاهز، “وحين تكون التوظيفات المنتجة من قبل الرأسمال الأجنبي، فإنه يقود عاجلًا أم أجلًا، إلى عودة الأرباح في الاتجاه المعاكس، وإلى توقف عملية النمو عند هذا الحد”.
وللخروج من هذه الحالة، يشترط آمين قيام ما يشبه حلقات التعاون الكاملة بين الدول المتأخرة/الأطراف، توفر للجميع بنية صالحة للتبادل المتكافئ، وتفتح الأسواق أمام سلعها الجديدة، وتمنحها القدرة على تجديد إنتاجها الاجتماعي، وتتجاوز معوقات البنية الصناعية المشوهة التي تركها النظام الاستعماري في البلدان التابعة، وكبحت تطورها الصناعي والإنتاجي.
تركيا.. هوليوود تقدم
كان الإعلام الأميركي، الناعق بلسان عربي، دائمًا ما يطرح النموذج التركي في التنمية والاقتصاد، كسبيل ناجع لعبور الأزمات التي يعانيها العالم العربي، وهو في ذلك ينطلق من فرضية سليمة، وهي أن شعوب هذه المنطقة تتقاطع في نقاط كثيرة، ولديها إرث مشترك وطويل، وبالتالي فإن مشاكلها وتوصيفات العوائق أمامها قد تتشابه، ووصفة العلاج ستكون صالحة للكل.
إلا أن الانهيار التركي، بفعل هروب الأموال الساخنة وخروج الاستثمارات الأجنبية، كشفت تهافت هذا النموذج وخواءه الشديد، وقيامه فقط على جذب استثمارات تبحث عن العائد السريع دون ارتباط بتحقيق التنمية المفترضة، وهو في ذلك كله رهن الرضا الغربي ـ الأميركي تحديدًا ـ عن حكوماتها ونظامها السياسي.
وتواجه تركيا، اليوم، ما تواجهه أغلب الدول العربية، لكن بطريقة العقاب الأميركي الذي يدمي ولا يقتل، إذ ترتكز أزمتها على 4 أضلاع التضخم المنفلت، الضغط على العملة المحلية، التخبط في سعر الفائدة، وأخيرًا العجز المتفاقم في الموازنة، وهي ذاتها أزمات الاقتصاديات العربية، والتي تخضع كليًا لشروط عصر التبعية وتدفع أثمان استمرارها في السير خلف مؤسسات السيطرة المالية الدولية / الأميركية.
إيران.. ثورة لا ثروة
بينما تهمل الأصوات الزاعقة ذاتها تجربة الجار الآخر، الإيراني، وقدرة هذا النموذج على مواجهة ما يزيد عن 4 عقود من الحصار، ثم الانطلاق بقاعدة صناعية محلية لتحقيق قفزة كبيرة، أتاحت لواحدة من بين 3 دول عانت من الضربة الأولى والأكبر لجائحة كورونا، مع الصين وإيطاليا، وتحقيق معدلات نمو إيجابية في العام التالي لانتشار الجائحة، ثم اتفاق التعاون طويل المدى مع الصين، والذي يمنح السلع الإيرانية النفاذ إلى الاقتصاد الأكبر في العام حاليًا، بحساب الناتج المحلي الإجمالي طبقًا لتعادل القوة الشرائية PPP، ما يدفع إلى كسر القدرة الأميركية على الإفادة أو التهديد بعقوبات مستقبلية واسعة على الاقتصاد الإيراني.
جاءت المصادفة في حالة الاقتصاد الإيراني، من حقيقة معمدة بالدم، وهي أن التجربة انطلقت من رحم ثورة، وحملت هذا الزخم الثوري معها، ثم زادها التدخل الأميركي بالمشاركة ودفع صدام حسين إلى الحرب الظالمة لثماني أعوام كاملة عنصرًا آخر هو الرؤية، والرؤية أول شروط السير على الطريق الجديد، ثم وضع الإمام الخميني ـ قده ـ القاعدة الدائمة للعمل الوطني على المستوى القومي، بإيمان لا يلين بحتمية المواجهة سياسيًا واقتصاديًا وشعبيًا.
بالظرف والإرادة، قامت التجربة الإيرانية مرتكزة حول الذات، منذ البداية، وحملت القيادة والدولة أمانة الدور الهائل المطلوب، من تدخل قوي وكثيف ومستمر لدعم التصنيع في كل البلد، ورفض أية خطط تنمية جزئية، والميل الدائم إلى مواجهة المشكلات والأزمات الطارئة بحلول إستراتيجية، كون أي حل مؤقت لن يفلح في مواجهة عملية حصار غربي طويل ومعقد.
وفي إطار البنية الاقتصادية الموروثة، فإن نظام الثورة الإسلامية القائم، حقق شرطًا طالما يراهن عليه الغرب في حالة الدول التابعة، والعربية بالأخص، وهو ضرب الطبقات الطفيلية، التي كانت تقوم بامتصاص الفائض الاقتصادي وتنهب ثمار النمو، وهي في ذلك كله تعيد توجيه هذه الثروات إلى الغرب، بما يبدد الإمكانيات الوطنية أولًا بأول.
حقق الاقتصاد المقاوم في الجمهورية الإسلامية المعادلة الكاملة، للخروج من ربقة التبعية المقيتة، على المستوى الخارجي، واجهت طهران الخارج بالتأكيد على نهج متفرد في الاستقلال السياسي الكامل والاستقلال الاقتصادي عن قواعد السوق العالمية الظالمة، وفي مواجهة التحدي الداخلي، فقد استبعدت الطبقات الطفيلية المدعومة والمصنوعة غربيًا، والتي ترتبط كل مصالحها بالخارج، وتدمر أي اقتصاد وطني عن طريق تحويل فائض إنتاجه للخارج.
وعقب مرور أعوام طويلة، من الإصرار على كسر الحصار الأميركي، والوقوف في وجه إرادة غربية تطلب الاستسلام، فإن الرسالة الإيرانية بالخروج إلى النور بمشروعات فضاء، ستبقى هي الشاهد الأهم والأوفى على النتيجة الحتمية لمجتمع قرر في لحظة أن يخوض التحدي إلى منتهاه، يمتلك قراره أولًا، ثم يتمكن من حيازة شروط عصر جديد، من المعرفة النووية إلى التواجد في ساحات السباق الفضائي، ثم يرتكز على قاعدة وطنية لا تلين، ولم تفلح كل محاولات كسرها أو تطويعها.
يمكن الآن القول بكل أريحية إن سباق الآمال والرهان على طهران قد بدأ يتجاوز حدود التفاؤل، ويعبر سماء التمني إلى واقع الإنجاز.
في حديث قائد الثورة الإسلامية آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، والموجه إلى الصناعيين ورجال الاقتصاد، التلخيص الأوفى لشروط عملية لازمة لأي مشروع نهضوي، قال سماحته: “إن إيران نجحت في مواجهة الخطط الأميركية لكسر الإنتاج”، واعتبر أن “صمود المنتجين أمام الهجوم على الاقتصاد ومساعي العدو لمنع بيع النفط والغاز وقطع الموارد النقدية الأجنبية وللتخطيط لقطع الطريق أمام المبادلات النقدية الأجنبية على إيران هو في الواقع جهاد ومن أعظم العبادات”، ودعا لاستمرار المسؤولون بـ”إعداد وثيقة إستراتيجية صناعية وإدارة الإنتاج وتوجيهه والإشراف عليه ودعمه، وتسريع الإنتاج والتشغيل وتقدم البلاد، وليبذلوا المزيد من الجهود حتى تتجلى آثار هذا النهج في حياة الناس”.