إفلاس أميركا
صحيفة الوطن العمانية ـ
د. أيمن مصطفى*:
لم تعبأ الأسواق كثيرا بالبدء في إغلاق بعض إدارات الحكومة الأميركية إثر عدم موافقة الكونجرس على الميزانية الاتحادية. فقد أصبح ذلك سمة مميزة للأخبار من الولايات المتحدة في مثل هذا الوقت منذ عام 2010 بعد انتهاء ما عرف بقانون الإعفاء الضريبي لجورج بوش. ومنذ ذلك الحين تم تفعيل إجراءات فورية تقضي بأنه في حالة عدم موافقة الكونجرس على الميزانية يبدأ الخفض الفوري لنفقات الحكومة مع زيادة الضرائب على الأعمال وأرباح الاستثمار. وتهدف الإجراءات، المعروفة إعلاميًّا بتعبير “الهاوية المالية”، إلى خفض عجز الميزانية الاتحادية الأميركية.
صحيح أن الشقاق بين الجمهوريين، ولهم الآن أغلبية مجلس النواب، والديموقراطيين الذين يحكم رئيسهم من البيت الأبيض هذه المرة أشد إلا أن الأسواق تتعامل مع الأمر على أن الكونجرس سيصل إلى اتفاق مع البيت الأبيض في النهاية على ميزانية إضافية. وتبقى المشكلة الأكثر تعقيدا هي مشكلة رفع سقف الاقتراض المسموح للحكومة بأعلى من وضعه الحالي عند 16.7 تريليون دولار (وهو تقريبا مئة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي). وهذا ما يقلق، ليس الأسواق فحسب بل كافة دول العالم ويمكن أن يؤثر على الاقتصاد العالمي كله بشكل قد يكون أسوأ من الأزمة المالية في 2007/2008 (والتي بدأت من أميركا أيضا بانهيار القطاع العقاري وانكشاف النظام المالي على ديون عقارية معدومة هائلة).
هناك نقطة مهمة، قد توضح الكثير فيما يتعلق بهذا التوتر المالي والاقتصادي العالمي الذي يتكرر سنويًّا مع تجدد مناقشات الميزانية الأميركية ورفع سقف الاقتراض الحكومي الا وهي ان الولايات المتحدة ـ عكس كثير من الدول الرأسمالية ـ لا تقرر فيها السلطة التنفيذية حجم ما يمكن أن تقترضه للإنفاق العام إنما تقرر ذلك السلطة التشريعية. ولعل هذا ما جعل وكالات التصنيف الائتماني الرئيسية تخفض تصنيفها للدين السيادي الأميركي العام الماضي ـ للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة التي تفقد فيها وضعها الممتاز. هذا، رغم ان دولا مثل بريطانيا وفرنسا قد يكون وضعها المالي والاقتصادي أسوأ من الولايات المتحدة لكن بيد الحكومة تقرير حدود الإنفاق والاقتراض دون الحاجة للرجوع للبرلمان.
لكن التخوف الشديد والقلق في الأسواق من احتمال ألا يوافق الكونجرس على رفع سقف الاقتراض للحكومة يأتي في الواقع في سياق تعامل العالم مع الأزمة المالية وتبعاتها بطريقة “الترقيع” دون معالجة الأسباب الجذرية للأزمة. والآن، تعود الولايات المتحدة مصدرا محتملا لأزمة جديدة وكل ما ينتظره العالم هو حل المشكلة بين الحكومة (البيت الأبيض) والسلطة التشريعية (الكونجرس) كي يستمر العالم كما هو: اقتصاد يتذبذب عند مستوى الركود، وحلول مؤقتة تعالج الأعراض، وتعميق أكبر للاختلالات التي أدت إلى تفجر الأزمات من البداية. لكن ألم يفكر أحد أن خفض التصنيف الائتماني للدين السيادي الأميركي مجددا، بل واحتمال إفلاس أميركا (بمعنى تخلفها عن سداد ديونها) ربما يكون الحل الناجع ـ وإن كان شديد المرارة ـ لمشكلة الاقتصاد العالمي المزمنة؟
صحيح ان الخسائر كبيرة جراء مثل هذا السيناريو ـ وإن كان المستفيد الأكبر سيظل هو الولايات المتحدة، التي ستشطب كثيرا من ديونها وستقل قيمة ما تبقى لأنها مقومة بالدولار الذي سيتراجع حتما مع هذا التطور. وفي مقدمة الخاسرين من يملكون القدر الأكبر من سندات الدين السيادي الأميركي مثل الصين واليابان ودول الخليج المصدرة للنفط. فمن بين أقل قليلا من عشرة تريليونات دولار من الدين الأميركي لدى أجانب خواص وما يزيد قليلا عن خمسة تريليونات نصف التريليون دولار من الدين الأميركي لحكومات أجنبية تملك الصين ما يصل إلى 22 في المئة واليابان نحو 20 بالمئة، بينما لدى دول الخليج ما يقل قليلا عن خمسة بالمئة (وهو ما يعني تقريبا نحو ربع تريليون دولار).
ومشكلة الدول المصدرة للنفط بدأت بالفعل حتى مع الإغلاق الجزئي للحكومة الأميركية، إذ أن الدولار أخذ في التراجع وعملات دول الخليج مرتبطة بالدولار. وكان متوقعا أن يعوض الارتفاع في أسعار النفط ذلك التراجع في قيمة العملات الخليجية ـ على اعتبار قاعدة السوق الأساسية بأن سعر النفط يتناسب عكسيًّا مع سعر صرف الدولار ـ لكن أسعار النفط أخذت أيضا في التراجع بسبب المخاوف من نقص الطلب في حال تضرر الاقتصاد الأميركي ـ أكبر اقتصاد في العالم.
وإذا كان يخشى من أن إفلاس أميركا سيضر بالنمو في الاقتصاد الصيني ـ الذي يقود قاطرة النمو الاقتصادي العالمي ويحول دون دخول الاقتصاد العالمي في كساد ـ أو الآسيوي عموما، فإن تلك صدمة ضرورية للتخلص من كثير من عيوب النظام الاقتصادي العالمي الحالية. وربما يكون العلاج الجذري بالصدمة أفضل كثيرا من عمليات “الترقيع” بالحلول المؤقتة، فكل ذلك يعمق من أسباب الأزمة وخاصة من مثالب النظام المالي العالمي. مع ذلك، فالأرجح أن تتفادى الولايات المتحدة الإفلاس وننتظر أسابيع توتر مالي واقتصادي العام المقبل. وحتى ذلك الحين، يظل الاقتصاد العالمي في حالة ما بين الركود والنمو الضعيف فلا هو يشفى ويتعافى ولا هو يدخل في كساد عميق يعقبه نمو جديد سليم.
* كاتب وصحفي عربي