إعادة هندسة أوروبا استراتيجياً بعد الحرب الروسية الأوكرانية
موقع قناة الميادين-
هدى رزق:
يواجه الاتحاد الأوروبي مع الحرب الروسية الأوكرانية متغيّرات ويعاني الأوروبيون نتيجة العواقب الاقتصادية لدعمهم أوكرانيا وارتفاع تكاليف الطاقة العالمية مقارنة بالأميركيين.
غيّرت الحرب الروسية الأوكرانية التوازنات الاستراتيجية في القارة الأوروبية وفي جميع أنحاء العالم، حيث دخلت أوروبا فترة جديدة من عدم الاستقرار في ظل هذه الحرب التي يمكن لتطوراتها أن تؤدي إلى مواجهة شاملة في أوروبا.
كانت دوائر صناعة القرار الغربي قد اعتبرت في بداية الحرب أن النزاع سيصل إلى طريق مسدود يمكنه أن يحمل روسيا على القبول بالتفاوض هرباً من سياسة الاستنزاف، ما يؤمن النصر للولايات المتحدة، لكنهم أدركوا أن موسكو قد تلجأ إلى التصعيد لتحقيق مكاسب ولن ترضخ لمفاوضات لا تحرز من خلالها نصراً. فالحرب مصيرية بالنسبة إليها، وهي تكتسب أيضاً أهمية مصيرية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لأنّ صمود روسيا ونجاحها في صد تقدم حلف الأطلسي صوب حدود أمنها الإقليمي في شرق أوروبا يعني نهاية المعركة لصالح موسكو.
التقاعس الأوروبي عن تشكيل قوة عسكرية يهمّشها
كان على الاتحاد الأوروبي السعي في العقود الماضية لاحتلال مرتبة القوة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة، لكن الأمر كان يتطلب اتحاداً سياسياً أكثر رسوخاً ذا سياسة خارجية مشتركة وقدرة دفاعية موحّدة. فالاتحاد ليس قوة رئيسية مستقلة على المسرح العالمي وإن كانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا متمتعة بمكانة عالمية موروثة عن الماضي، إلا أن بريطانيا بقيت متوجسة من الاتحاد الأوروبي، أما فرنسا فبقيت متردّدة وغير واثقة من توجّهها العالمي، وألمانيا المحرّك الاقتصادي لأوروبا بقيت محجمة عن الاضطلاع بأي مسؤوليات عسكرية خارج بلادها.
يواجه الاتحاد الأوروبي مع الحرب الروسية الأوكرانية متغيّرات ويعاني الأوروبيون نتيجة العواقب الاقتصادية لدعمهم أوكرانيا وارتفاع تكاليف الطاقة العالمية مقارنة بالأميركيين. فبينما بلغ التضخم في الولايات المتحدة 7.7% في تشرين الثاني/نوفمبر2022، فإنه وصل إلى 11.1% في المملكة المتحدة، و11.6% في ألمانيا، و14.3% في هولندا خلال الشهر نفسه. أما بالنسبة لأزمة الطاقة، فقد تم اتخاذ خطوات جادة لتقليل الاعتماد على روسيا في إمدادات الغاز الطبيعي في أوروبا، وخاصة في ألمانيا. ومع ذلك، لا تزال دول البلطيق وبعض دول أوروبا الوسطى تعتمد على روسيا في الحصول على الغاز الطبيعي، هذه الدول بطبيعة الحال لا تريد إطالة الحرب، وهي قلقة أيضاً من إمكانية استخدام الأسلحة النووية.
وحدها بولندا المجاورة لأوكرانيا التي تريد استمرار الحرب والانتصار على روسيا، وهي تؤدي دوراً رئيسياً في توصيل الأسلحة والذخيرة إلى أوكرانيا، الأمر نفسه ينطبق على جمهورية التشيك، القريبة من هذه الاستراتيجية. كما أن بولندا والتشيك هما البلدان اللذان يستقبلان معظم اللاجئين من أوكرانيا، ويتم إنفاق جزء كبير من ناتجهما المحلي الإجمالي على الحرب الأوكرانية، ومع ذلك، فإن التحالف الغربي بأكمله، بما في ذلك الدولتان المذكورتان لم يجد أجوبة حول المدى الزمني لهذه الحرب.
الاتحاد الأوروبي يدفع ثمن مواقفه
حاولت دول الاتحاد الأوروبي تقليل اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، فتحوّلت إلى الغاز الأميركي، لكن السعر الذي يدفعه الأوروبيون هو ما يقرب من 4 أضعاف تكاليف الوقود نفسها في أميركا، ثم هناك الزيادة المحتملة في الطلبات على المعدات العسكرية الأميركية الصنع، حيث ينفد عتاد الجيوش الأوروبية بعد إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، أما الولايات المتحدة التي تواجه أزمة تضخّم فكان ناتجها من السلاح والطاقة هو الأعلى.
لا يمكن التفكير في أن المانيا وفرنسا وبريطانيا يمكن أن تضحي بأوكرانيا بعد هذا الوقت، لكن من الواضح أيضاً أنها لا تريد استمرار الحرب. لذلك، كان معروفاً أنه لم يكن هناك إجماع كامل في الغرب لفترة من الوقت على الاستراتيجية التي يجب اتباعها في حرب أوكرانيا، فجاء اجتماع قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا في 20 كانون الثاني/يناير الذي جمع 50 وزيراً من وزراء دفاع الحلف الأطلسي ليثبت أن أحد أهم أهدافه هو حل الخلافات في الرأي داخلها.
طالبت أوكرانيا حلفاءها الغربيين-خاصة ألمانيا والولايات المتحدة-بمنحها دبابات متقدّمة؛ في إشارة إلى “ليوبارد 2″ الألمانية، و”أم أبرامز” الأميركية، لمواجهة هجوم روسي متوقّع مع حلول فصل الربيع. أسهمت الولايات المتحدة بمساعدة أوكرانيا بما يزيد على 50 مليار دولار، وبلغ نصيب أوروبا ما يزيد على 40 مليار دولار.
لكن ألمانيا والولايات المتحدة تردّدتا بشأن تسليم دبابات غربية متقدّمة لأوكرانيا بشكل علني. بعد أن اتهمت موسكو، الغرب بالفعل بخوض “حرب بالوكالة” ضدها في أوكرانيا، بينما تضغط كل من المملكة المتحدة وبولندا وفنلندا ودول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) على أعضاء حلف الناتو لتوفير معدات أثقل لكييف فيما أعطت بولندا وفنلندا ودول البلطيق الضوء الأخضر لتسليم دبابات لديها من طراز “ليوبارد 2” إلى أوكرانيا، ولم تعترض ألمانيا على هذه الخطوة.
الحرب في أوكرانيا، ما زالت محصورة في أراضيها، وهي لا شك تجسد حالة حرب بالوكالة ضد روسيا، من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين، ما يجعل تطوراتها ونتائجها المحتملة، إما انتصاراً كلياً أو جزئياً، أو هزيمة كاملة.
أميركا مستفيدة لكن أوروبا في موقع صعب
من الواضح أن الحرب في أوكرانيا لا تعتمد على القدرات الأميركية الذاتية فقط فهناك الكثير من العوامل أهمها التوافق والقبول التام بالنسبة لحلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة؛ والتحالفات الوثيقة مع الاتحاد الأوروبي حيث تمكّنت إدارة الرئيس بايدن من إنهاء مرحلة الغموض حول دور الحلف وتماسكه وقامت بتوسعة جناحه الشرقي من خلال قبول فنلندا والسويد عضوين جديدين، والالتزام بإنشاء مقر عسكري دائم جديد في بولندا، والبدء في إنشاء قوة الرد السريع للناتو.
ووفقاً للاستراتيجية الأميركية التي صدرت في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2022 التي تضمنت مفهوم “الردع المتكامل” باعتباره الاستراتيجية الأميركية للتعامل مع أي تهديدات، لا تمثل روسيا تحدياً كبيراً كما هو الحال بالنسبة للصين. بل تضمنت أهدافاً محدّدة كاحتواء ما أسمته الإمبريالية الروسية، والتي تجسّدت بحسب الوثيقة في الحرب ضد أوكرانيا، والتدخّل العسكري المباشر في سوريا، وتدخّلات أخرى في دول آسيا الوسطى المجاورة لها. وأوضحت الوثيقة ثلاثة أساليب للحد من “الإمبريالية الروسية”: أولها، الدعم المستمر لأوكرانيا سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً؛ بغرض تحويل الحرب إلى فشل استراتيجي لروسيا، وثانيها، استنزاف الاقتصاد الروسي، وثالثها، منع روسيا من استخدام الأسلحة النووية أو التهديد بها.
اندفع الاتحاد الأوروبي إلى تبعية للسياسة الأميركية ولم يعمل على استقلاليته الدفاعية لذلك يبدو أنه مدعو إلى الحفاظ على مجال تركيزه الاستراتيجي الأصلي وهو الأمن الأوروبي بعد تحوّل مركز الثقل الاستراتيجي في أوروبا من الغرب إلى الشرق والشمال من القارة.
تتعرض هندسة أوروبا الجيوسياسية كما وُضعت على أنقاض الحرب العالمية الثانية لاهتزازات لم يتضح مداها بعد الحرب في أوكرانيا. ألمانيا وأوروبا تجدان نفسيهما اليوم في موقف صعب رغم أن هذه الحرب مكّنت من عودة روح الشراكة الأطلسية وتعزيز صفوف حلف الناتو عبر تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، غير أن غياب أفق لنهاية الحرب يطرح السؤال حول قدرة الأوروبيين على الحفاظ على موقف موحّد أمام انفجار نسبة التضخم وغلاء المعيشة وتضارب المصالح.