إطاحة بوتين من الداخل: حقيقة أَمْ وهم؟
موقع قناة الميادين-
ليلى نقولا:
لطالما أخطأ الأميركيون في الرهان على تجويع الشعوب من أجل دفعها إلى تغيير حكامها، فلقد جرّبوا هذه الاستراتيجية في كل من إيران وسوريا وفنزويلا، وفشلوا.
بعد إدراك الغرب عدم قدرته على الانتصار عسكرياً على الروس في أوكرانيا، بدأت التصريحات الغربية تتطور لتصل إلى الدعوة إلى إسقاط بوتين في الداخل، وبرزت عدة مقالات غربية في هذا السياق، واستُكلمت بحديث لرئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي هدّد، بعد خطاب زيلينكسي في مجلس العموم البريطاني، قائلاً: “سنواصل الضغط بكل الوسائل على روسيا حتى سقوط بوتين”. وقالت وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند: “حينما تتعرض قيادة بوتين للخطر بسبب أوكرانيا، سيكون أمامه تغيير مساره، أو أن الشعب الروسي سيتولى الأمور بيديه”.
من هنا، يُطرح السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن أن ينجح الغرب في المراهنة على إسقاط بوتين في الداخل؟
في دراسة إحصائية أعدّها مؤخراً أحد المراكز الروسية المعارِضة، والمدعومة من الغرب، أكد 59 % من المستطلَعين الروس أنهم “يدعمون العملية العسكرية على أوكرانيا”، معتبرين أن أوكرانيا هي ضحية الغرب والنازية الجديدة. كما قال 73 % من المستطلَعين إنهم يثقون “تماماً” بالمصادر الروسية الرسمية.
وفي تحليل لنحوالى 2.73 مليون تغريدة في وسائل التواصل الاجتماعي، فإن 51.8 % ينظرون بإيجابية إلى العمل العسكري في أوكرانيا، و14.5 % فقط من التغريدات هي ضد بوتين.
وفي تحليل لتصورات الشعب الروسي ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين، والتي غالباً ما يخطئ الغرب في تقييمها، نجد ما يلي:
1 - إيمان الروس بعظمة بلادهم
يؤمن الروس، منذ روسيا القيصرية، مروراً بالاتحاد السوفياتي ولغاية اليوم، بعظمة بلادهم. وعلى الرغم من الاختلافات الداخلية بشأن الحكم، أو في التوجهات السياسية، سواء كانوا مؤيدين للتقارب مع أوروبا، أو مؤمنين بالأوراسية، أو المسيحية الأرثوذكسية الشرقية، أو أنصار التوجه الإسلامي… إلخ، فإن العنصر الموحِّد في الثقافة السياسية الروسية المعاصرة هو الصورة الذاتية لروسيا كقوة عظمى.
حتى في ضوء المشكلات المالية الكبيرة، والتي واجهتها روسيا في عام 1992، رفض يلتسين عرض “المساعدة” من الرئيس الأميركي بيل كلينتون، مشيراً إلى أننا “لا نطلب الحصول على المساعدات. روسيا قوة عظمى”.
من ضمن هذه النظرة إلى الذات، يؤمن الروس بأن دولتهم يجب أن تشارك في تقرير القضايا العالمية، ويكون لها مجال نفوذ في محيطها المجاور، ويعتبرون أن عالماً متعدد الأقطاب هو الملائم لهذه الرؤية. وهكذا، يرفض الروس قبول تصنيفهم على أنهم قوة إقليمية أو قوة وسط في النظام، فإمّا “هي قوة عظمى وإمّا لا تكون”.
انطلاقاً من هذه النظرة، فإن ما يفعله بوتين اليوم، بالنسبة إلى الروس، هو تأكيد أهمية بلادهم وعظمتها، وأنهم لن يقبلوا أن يكونوا تابعاً في النظام الدولي.
2 - الخوف من محيط مُعادٍ والشكّ فيه
يؤدي الخوف دوراً مؤثّراً في الثقافة السياسية الروسية. بالنسبة إلى الروس، العالم كناية عن بيئة غير ودية، هدفها الرئيس تدمير الأمة الروسية.
تاريخياً، تمّ بناء الهوية الروسية على ركائز ثلاث: الأمن والوحدة، وشعور بالغ الأهمية بضروة المحافظة على مجتمع متماسك، والخوف من الإبادة في بيئة خارجية معادية للغاية. ولعل العامل الأخير مهّم في فهم الهوية العكسية، إذ يفسّر كيف يفكر الروس في أن سائر العالم ينظر إليهم كتهديد أيديولوجي وهدف إقليمي.
في الواقع، كان العالم دائماً مكاناً خطيراً للروس، نتيجة الأسباب التالية:
قاتلت روسيا باستمرار من أجل وجودها في الوقت الذي كانت “محاطة من كل جانب من أعداء أقوياء”، أو تتعرّض للهجوم من جانب جميع أنواع القوى المعادية: الفايكنج، السويد، تركيا، التتار، فرنسا، ألمانيا، الولايات المتحدة وحلف الناتو… إلخ. استمر الوضع على هذه الحال حتى تمكّن الاتحاد السوفياتي من “تطهير الفناء الخلفي” عن طريق تثبيت مناطق معادية للناتو في محيطه الأوروبي، من خلال إنشاء أنظمة سوفياتية في أوروبا الشرقية.
مع بوتين، يشعر الروس بأن الغرب يحاربهم لأنهم “إمبراطوية كبرى” تتعافى بعد أن عانت من فترات من الانحطاط بعد انتهاء الحرب الباردة. لذا، فهم مستعدون لفعل كل شيء من أجل حماية هويتهم الوطنية.
منذ عام 2014، يرى الروس أن توسّع الناتو والاتحاد الأوروبي صوب الحدود الروسية ليس مجرد تهديد جيوبوليتكي فحسب، وإنما تهديد وجودي وحضاري أيضاً، يهدّد الهوية الوطنية والقيم الروسية. واليوم، يؤمن الروس بأن بوتين يقوم بعملية دفاع عن المواطنين الروس، سواء الموجودين في أوكرانيا أو في روسيا نفسها، لأن الغرب حينما ينتهي من “إبادة” الروس في أوكرانيا، سينقضّ على الروس الموجودين في روسيا، بحسب نظرتهم.
3 – الجماعية
تاريخياً، كانت روسيا على استعداد لوضع جودة الحياة العالية على مذبح مفهوم “روسيا العظمى”، وكان الناس، كما لاحظ دوستويفسكي، على استعداد للتضحية بثروتهم الاقتصادية الفردية من أجل الواجب الاخلاقي تجاه الوطن.
خلال الحقبة الشيوعية، كانت “الجماعية” إجابة عن المصاعب التي مرّ فيها الشعب الروسي، نتيجة لـ”ثورة أكتوبر” والحرب العالمية الثانية. واليوم، يعبّر كثيرون من الروس عن أنهم مستعدون للتخلي عن وسائل الراحة الفردية والاستقرار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، وتحمّل العقوبات الاقتصادية، في مقابل تقوية نفوذ بلادهم خارجياً، والتحرر من الأخطار المتعددة التي تتهددها.
وهكذا، بناءً على ما تقدَّم، نجد أن الخطة الغربية القائمة على الضغط على الروس لإطاحة بوتين لا تبدو واقعية. أمّا المقالات التي تتحدّث عن إمكان قيام النخبة الروسية الغنية والنافذة بإطاحته، بسبب قيامه بحرب في أوكرانيا أضرّت بمصالحها، فلا تبدو حقيقية، إذ إن تلك النخبة تَدين لبوتين وشركائه بما هي عليه الآن، وتؤمن بأنها لن تكون مقبولة في الغرب حتى لو أُطيح بوتين، فقط لانها روسية. وفي رأي الروس، فإن “الغرب لا يريد للروس أن يتقدموا حضارياً ومالياً”.
أمّا بالنسبة إلى تحفيز الروس على إطاحة بوتين بسبب أعداد القتلى من الجنود، فلقد استعدّ بوتين لهذا الأمر، ووجّه الدعوة إلى القتال في أوكرانيا، فقط إلى “من يريد القتال ويتطوع للمشاركة في تلك العملية الخاصة”. وهكذا، فوّت على الخارج والداخل إمكان الاستثمار في دماء الجنود الروس الذين يُقتلون في تلك الحرب.
لطالما أخطأ الأميركيون في الرهان على قدرتهم على تجويع الشعوب من أجل دفعها إلى تغيير حكّامها، فلقد جرّبوا هذه الاستراتيجية في كل من إيران وسوريا وفنزويلا، وفشلوا. أمّا في روسيا، فإن هذه الاستراتيجية لا تعدو كونها وهماً أكبر.