إصابة لبنانية مكتومة في انفجار بوسطن
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
جان عزيز:
لم يُخف فريق المعارضة الحكومية السابقة انتصاريته عقب استقالة الحكومة. حتى أن بعض الأداء الشخصي لامس حدود «البطر» السياسي، على طريقة: لقد انتصرنا. وبالتدقيق في خلفيات تلك الحالة النفسية أو العامة، يظهر أنه تجمّعت يومها سلسلة من الأسباب والعوامل المفسّرة إلى حد كبير لهذا الانطباع.
فعلى الصعيد المحلي، وأيّاً كانت الدوافع الدقيقة لاستقالة نجيب ميقاتي، ظل جلياً انها عُدّت انتصاراً لمعارضيه، وتحقيقاً لمطلب أساسي رفعوه، منذ اغتيال وسام الحسن على الأقل في 19 تشرين الأول الماضي، ما كان كافياً وحده ربما لتكوين تلك النشوة النفسية المفتقدة طويلاً، والمتزاوجة مع لهفة السلطة لتضخيم تلك الحالة الاحتفالية.
أضيف إلى هذا البعد المحلي المحدود، لكن الملموس، بعد إقليمي. تمثّل في شكل اساسي في الكلام عن «انتصار» الدور السعودي لبنانياً، والعودة شبه المظفّرة والمتفرّدة لرعاية عائلة الرياض الحاكمة. وكما في كل لحظة مماثلة، كان لوليد جنبلاط طبعاً دور طليعي في هذا المجال. فهو أول من بشّر بسيادة الوصاية الجديدة، تماماً كما اعتاد مع الوصايات السابقة كافة. وعلى قاعدة أسطورة تمتّع البيك الاشتراكي بحاسة شم الوصايات مسبقاً تمهيداً لقطافها المبكر، تضخّم الإحساس المحلي لدى البعض بانطباع انتصاره الكبير. كان يكفي أن يلفظ جنبلاط اسم بندر بن سلطان ليعيش هؤلاء حالة كادت أن تكون استكبارية. لم يكن ينقصها إلا ذهاب جبران باسيل إلى سفارة آل سعود في بيروت، بعد 24 ساعة على زيارة سفيرهم إلى بطرس حرب في منزله، لتكريس شعور شبه إمبراطوري لدى الضاربين بالسيف البندري.
يبقى لهذين البعدين المحلي والإقليمي حامل دولي أكبر. ففي شكل شبه متزامن كان باراك أوباما في اسرائيل، وكان كلام عن قرار أميركي بحسم الوضع في سوريا، أو على الأقل تسريع بعض الخطوات الميدانية. وأولها أقفال النوافذ الأوكسيجينية للنظام السوري، من إيران عبر العراق، ومن لبنان، فضلاً عن مزيد من الضغوط عبر الأردن وتركيا.
هذه المروحة من العوامل عاشها البعض لمدة أسبوعين. حتى مشية هؤلاء تبدلت. استحالت تخايلية استعراضية كأن نصف متر أضيف إلى قاماتهم، لينظروا قامة ميقاتي وهي تخرج من الأسفل…
شهر واحد كان كافياً لتعديل الكثير من تلك الحسابات والانطباعات. أو على الأقل للتخفيف من أوهامها ولتبريد رؤوس أصحابها وعقلنة المسؤولين الفعليين. وذلك بسبب من تطورات موازية على الأصعدة الثلاثة نفسها. فمحلياً انتهى زخم الاستقالة والتكليف سريعاً. حتى جنبلاط نفسه أحس بشيء من خفّة تصرفه الأول، ما جعله يدخل في نزاع مع الفريق الحريري نفسه. تمام سلام اكتشف أيضاً أن أربعين سنة فقط قد مرت على آخر تجربة شخصية له مع تشكيل حكومة في لبنان. أربعون عاماً حفلت بنحو خمسين مادة معدلة من الدستور، وأكثر منها من الحروب التي مهدت لذلك. كما أن عامل الوقت نفسه كان ضرورياً ليلتقط فريق الأكثرية الحكومية السابقة بعض أنفاسه، ويستعيد شيئاً من مبادرته. وذلك بعد ساعات من الإرباك الذي قارب الشلل عقب استقالة ميقاتي.
أما إقليمياً فما يحصل في المحيط ليس تفصيلاً. أصلاً كل الانقلاب الذي دبّر في الفترة الواقعة بين استقالة ميقاتي وتكليف سلام، بُني على مقولة أن تورط حزب الله في سوريا بات أكبر من أن يسمح له بأي تحرك في بيروت. وأن استنزافه بين السيدة زينب والقصير سيستمر حتى القضاء عليه نهائياً مع سقوط الأسد. وبمعزل عن صحة مضمون هذا الكلام، المؤكد أن منطقه هو ما سيّر أحداث الشهر الماضي لبنانياً. حتى أن مسؤولين كباراً جاهروا في مجالسهم بهذا الرهان. لكن حساب البيدر اختلف على ما يبدو. فما يحصل في الأيام الأخيرة في الزاوية الشمالية الشرقية من الحدود اللبنانية، ينبئ باستئخار طويل لذلك الرهان، إن لم يبلغ مرحلة انعكاسه وحتى انقلابه على أصحابه.
كان لا يزال هناك العامل الدولي، فجاء الأخوان تسارناييف هبة من السماء وهما ذاهبين إليها، ليكملا المشهد. إرهاب جهادي سني في قلب الولايات المتحدة، مضموم على تحذيرات روسية لواشنطن قبل سنتين. يكفي استعراض تهافت المعارضين السوريين على إدانة تفجير بوسطن لفهم تداعياته: ربط أميركي فعلي بين إمارة القوقاز وإمارة جبهة النصرة. وقعت واشنطن في شيء من سكيزوفرينيا باريس في مالي: الذين يقتلوننا في تمبكتو يستخدمون مسدساً أعطيناهم إياه قرب أعزاز. المعادلة نفسها اكتشفها الأميركيون بعد انفجار بوسطن، ما أدى إلى إصابات لبنانية سياسية مكتومة…
لكل تلك الأسباب، قد يتجه الوضع اللبناني إلى شيء من التوازن الداخلي والإقليمي والدولي. توازن قد يؤمن فرصة لتركيبة لبنانية لبنانية، كما لم يفعل مسؤولو هذا البلد قط، منذ أخبرنا جنرال فرنسي أننا صرنا دولة، يقدم السفراء ورقة اعتماد شكلية لدى رئيسها، فيقدّم سياسيوها كل أوراقهم الفعلية لديهم.