إسرائيل إذ تخشى خسارة يهود أميركا
طغت مظاهر القلق على دوائر الحكم والنُخَب الثقافية في تل أبيب، في أعقاب ما اعتبرت دلائل واضحة على تراجع “خطير” في مستوى العلاقة بين إسرائيل والجاليات اليهودية في أرجاء العالم، ولا سيما في الولايات المتحدة، وبروز مؤشراتٍ قوية على ضعف وتيرة التضامن الذي يبديه يهود العالم تجاه الكيان الصهيوني. ونظراً إلى خطورة الأمر، تم بحث القضية في جلسة خاصة للمجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن في مطلع إبريل/ نيسان الماضي، حيث تم تكليف وزارة “الشتات اليهودي” بإعداد خطة شاملة لمواجهة هذا “الخطر”. ونظراً لأن إسرائيل ظلت ترى في تأييد يهود العالم والمنظمات التي تمثلهم، ولا سيما في الولايات المتحدة، لها ذخراً استراتيجياً من الطراز الأول، فإنه في الإمكان تفهّم الحساسية الكبيرة التي تبديها دوائر الحكم في تل أبيب إزاء أي مظهرٍ يدلّل على تراجع مستوى العلاقة بينها ويهود العالم.
ما أثار الصدمة لدوائر صنع القرار في تل أبيب حقيقة أنه تبيّن أن الحملات الدولية الداعية إلى مقاطعة إسرائيل بسبب سياساتها تجاه الشعب الفلسطيني، يقودها يهود، ولا سيما في الولايات المتحدة. وهذا، بالضبط، ما جعل قرار رئيس الوكالة اليهودية، نتان شارانسكي، في مارس/ آذار الماضي، والقاضي بإرسال وفود طلابية إسرائيلية إلى الجامعات الأميركية لمواجهة ما اعتبر “الخطر الاستراتيجي المتمثل في الحملات اللاسامية”، الهادفة إلى نزع الشرعية عن إٍسرائيل، عبر الدعوة إلى مقاطعتها، يقابل بالسخرية من باحثين وكتّاب صهاينة ذكّروا شارانسكي بأن الذين يقودون هذه الحملات يهود. ويشير شلومو شامير، وهو أبرز الباحثين في علاقة إسرائيل باليهود الأميركيين، إلى أن اضطلاع الشباب اليهودي بدور ريادي في تنظيم الحملات الداعية إلى مقاطعة إسرائيل، قد دفعت منظمة “هليل”، المسؤولة عن تخطيط حملات الدعاية المساندة لإسرائيل في 500 جامعة أميركية وتنفيذها، إلى فرض عقوبات على طلاب كثيرين يهود بسبب دورهم “الحاسم” في حملات المقاطعة، وهي عقوبات أسفرت عن نتائج عكسية (موقع ذي بوست، 21/4/2014). وحسب شامير، فإن الإجراءات العقابية التي أقدمت عليها “هليل” لم تحل دون إعلان الهيئات الطلابية اليهودية في عدد من الجامعات، عن رفضها المطلق إملاءات “هليل”، وأعلنت، في المقابل، أنها ستتعاون مع أي حملةٍ تهدف إلى نزع الشرعية عن إسرائيل، بسبب سياساتها تجاه الفلسطينيين، كما حدث في جامعة “سوارتمور”، معتبراً أن ما يحدث “تمرّد حقيقي” على المنظمات التي تحتكر تمثيل اليهود الأميركيين. وهناك من دوائر صنع القرار في تل أبيب مَن اعتبر أن مؤشرات التراجع على مستويات العلاقة بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة يرجع، في الأساس، إلى تحوّل نسبة كبيرة من اليهود الأميركيين عن اليهودية، وهي الظاهرة التي يفاقمها توجه الأغلبية الساحقة من الشباب اليهودي الأميركي للزواج من غير اليهود. فحسب نتائج دراسة أجراها معهد “PEW”، فإن 58% من الشباب اليهودي الأميركي يتجهون إلى “الزواج المختلط” (معاريف، 13/4/2014). إن أحد مظاهر ضعف الرابط بين اليهود الأميركيين واليهودية، كما يشير رئيس اتحاد المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة، جالي سيلبرمان، تتمثل في أن 10% فقط من الطلاب اليهود يتوجهون إلى مدارس يهودية (إسرائيل اليوم، 25/5/2014). وحسب تقديرات النخب الإسرائيلية، هذا الواقع هو ما جعل 5% فقط من اليهود في الولايات المتحدة يتأثر تصويتهم في الانتخابات الرئاسية الأميركية بمدى التزام المرشح بمصالح إسرائيل، كما دلت نتائج دراسة معهد “PEW”.
ودفعت هذه المعطيات وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، إلى الربط بين ما يمر به اليهود الأميركيون، حالياً، وما حدث ليهود أوروبا في الحرب العالمية الثانية. فخلال لقائه مع قادة في منظمة “إيباك” الأميركية في منتصف إبريل/ نيسان الماضي، قال ليبرمان: “يهود الولايات المتحدة على حافة كارثة حقيقية. ففي حال ظلت وتيرة التحول عن اليهودية على هذا النحو، سنفقد، في غضون جيل أو جيلين، ستة ملايين يهودي آخرين”، (معاريف، 18/4/2014). وهناك في إسرائيل مَن يرى أن ضعف أواصر الترابط مع الولايات المتحدة أثّر بالفعل على المنظمات التي تمثل اليهود الأميركيين، وأسهم في تراجع قدرتها على التأثير في السياسات الأميركية تجاه الشرق الأوسط. ويرى إيتان هابر، مدير ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، أن إدراك صنّاع القرار في البيت الأبيض حجم مظاهر “تمرد” اليهود الأميركيين على المؤسسات التي تمثلهم، جعل قادة الإدارة الأميركية يبدون مظاهر استهانة بمنظمة “إيباك”، أكثر المنظمات اليهودية نفوذاً، منوهاً إلى أن مؤتمر المنظمة السنوي، أخيراً، هو أول مؤتمر يغيب عنه الرئيس الأميركي، وعدد كبير من أركان إدارته (يديعوت أحرونوت، 1/3/2014).
المعطيات آنفة الذكر هي التي دفعت وزارة الشتات، بناءً على تعليمات الحكومة المصغرة لشؤون الأمن في تل أبيب، إلى إعداد خطة شاملة لـ”تعزيز المضامين اليهودية” لهوية يهود العالم، ولا سيما في الولايات المتحدة، كلفتها ستة مليارات دولار، تنفذ على مدى عقدين من الزمن (جيروزاليم بوست، 1/6/2014). وحسب دفير كهانا، وكيل الوزارة، فإن الخطة تهدف أساساً إلى تقليص وتيرة تحوّل اليهود عن اليهودية، والحد من ظاهرة “الزواج المختلط” بين الشباب اليهودي، وتعزيز ارتباطهم بإسرائيل. وتنص الخطة على تمويل برامج لتدريس اللغة العبرية في المدارس التي توجد فيها نسبة كبيرة من اليهود، في أرجاء العالم.
يتّضح ممّا تقدّم أن تضييق الخناق على إسرائيل، ومحاصرتها في الساحة الدولية، والمسّ بشرعيتها وزيادة الوعي العالمي بحجم جرائمها، يتطلّب توثيق العلاقات مع الأوساط الشبابية اليهودية التي تتخذ موقفاً نقدياً تجاه سياسات الكيان الصهيوني، وسلوكه تجاه الشعب الفلسطيني. وإن كانت إسرائيل تستنفر لتقليص “مخاطر” التحولات التي تمر على اليهود الأميركيين، فيتوجب علينا الإثقال عليها، وإفشال مخططها في جهد إعلامي وثقافي، لفضح الممارسات الإسرائيلية وتعريتها.
صالح النعامي – موقع العربي الجديد