إرتقاء خضر عدنان شهيداً نصر أم هزيمة؟
جريدة البناء اللبنانية-
صادق القضماني:
«انّ الأقوياء، قبل كلّ شيء أقوياء في نفوسهم، والأسرى والشهداء النموذج».
الأسير الشهيد الشيخ خضر عدنان (44 عاماً)، أبرز الأسرى في مواجهة الاعتقال الإداري، عبر النضال بأمعائه الخاوية. خاض أول تجربة إضراب عن الطعام عام 2004 رفضاً لعزله في سجون الاحتلال واستمر 25 يوماً، وانتصر. وفي العام 2012، أرسى ما عُرف لاحقاً باسم «ثورة الإضراب الفردي» في سجون الاحتلال، ومضى على دربه عشرات الأسرى حين خاض إضراباً استمر 66 يوماً، وتزامن مع حراك شعبي واسع حتى قرر الاحتلال الافراج عنه، ليحقق انتصار جديد بتثبيت الفكرة من ناحية وجعلها معركة لتحريك الشارع في الخارج. في عام 2015، أضرب الشهيد خضر بعد اعتقاله، لمدة 56 يوماً. وفي عام 2018 خاض الإضراب عن الطعام 58 يوماً. أما في عام 2021، فاستمر إضرابه عن الطعام 25 يوماً. وتعرّض للاعتقال 12 مرة، أمضى ما مجموعه نحو 8 أعوام في زنازين الاحتلال، غالبيتها قيد الاعتقال الاداري، وفق «ملف سري». لكن الجميع يعرف أسباب اعتقاله، فهو القياديّ في حركة «الجهاد الاسلامي»، والأهم أنه مؤثر في الشارع وخطابه وحدويّ ضد الاحتلال وكلمته مسموعة في الضفة الغربية. وهذا ما قاله ضابط إسرائيلي لأبناء الشيخ عند اعتقاله: «أبوكم يُحرّك الضفة من شمالها الى جنوبها بكلمة منه، سأجعله يموت في السجن».
أما معركته الاخيرة فقد خاضها خلال 87 يوماً من الاضراب حتى وصل لمرحلة الخطر الشديد على حياته، رفض الاستسلام وارتقى شهيدا.
مما لا شك فيه أنّ حرب الوجود في فلسطين بين أصحاب الحق والأرض والمستعمرين الصهاينة لا يمكننا تقييمها بمشهد واحد، فالمقاومة عبر سنوات الاحتلال أخذت أشكال مختلفة فرضها الواقع الدولي والإقليمي وأبدع في مواجهتها هذا الشعب العنيد والمتشبث بحقه، وبناءاً على هذا المنطق فإن تسليط الضوء على اي قضيّة ونتائجها يجب أن تكون بمعطيات الحالة المعطاة منفردة، ومنها قضيّة الاعتقال والإضراب عن الطعام وآخرها معركة الامعاء الخاويّة التي خاضها الشيخ الجليل خضر عدنان وارتقى فيها شهيدا في معركته الأخيرة.
نتائج نضال الحركة الاسيرة وتحديد من المنتصر لا يمكن تقييمه دون تحديد أهداف العقل الصهيوني المحتل من الاعتقال، ومما لا لبس فيه فإن الهدف ليس عقاب قانوني جراء جرم ما، فالكيان بالأساس وجوده وممارساته وطبيعته لا قانون فيه. هذا الكيان الذي ما زال يعتقل يوميا الفلسطينيين رجالا، أطفالا، نساءً وكهول، ضمن سياسات ممنهجة من المس بإنسانيّتهم وكرامتهم وحياتهم بهدف الإذلال والتجهيل، والإضعاف والنيل من الانسان وصموده، وفرض واقع والحصول على استسلام الاسير لهذا الواقع.
«المعتقلات وجدت لكيَّ الوعيّ والعنفوان»
شكل الأسرى داخل المعتقلات وعبر عقود عامل أساسي في معركة الوعيّ مقابل كيّ الوعيّ، فالمعتقلات ورغم قساوة الفكرة، باتت أشبه بجامعات وطنيّة وفكريّة وثوريّة، ونموذج للوحدة الوطنيّة، ونتيجة لذلك بتنا نرى ابتسامة الشباب ترافق محياهم اثناء اعتقالهم، بفعل القيمة المعنويّة والوطنيّة التي رسختها الحركة الاسيرة عبر عقود من النضال والمواجهة لتثبيت العنفوان والكرامة للأسرى داخل المعتقلات، فالأسير مجتمعياً مناضل يقدم سنوات عمره فداءً للفكرة والوطن، وتحرره من الأسر يعتبر مدعاة للتكريم والمباركة من مجتمعه بعد نيله الحرية.
على مدار معارك مختلفة انتصر الأسرى في معركة «كيّ الوعيّ»، فالنضال كان داخل المعتقلات بالحفاظ على حقوقهم اليوميّة وأيضا على التعامل معهم كأسرى سياسيين معتقلين نتيجة للصراع، مما يترتب من ذلك مستوى مختلف من التفاوض والاحتجاج والاضرابات الجماعيّة أو الفرديّة. لتصبح المعتقلات منارة في الوعيّ والثبات، والأسرى عنوان يستمد منه الشعب الفلسطيني القوة والصبر.
إذا، في قضيّة الأسرى لا نستطيع قراءة النصر من المشهد الجاف كمعتقل وسلب حرية، بل من خلال الهدف من هذا الظلم الموجه، لنؤكد ان العدو الصهيوني هُزم في نتائج الفكرة، ليصبح الأسرى مجتمع بحد ذاته لهم حضور ملهم داخل المعتقلات او خارجه تحت صفة أسرى محررين، كنموذج أخلاقي لمعنى التضحيَة والشجاعة.
الاعتقال ليس سلب حرية، بل تقييد جسد والشهادة ليست موت، بل حياة أخرى استطاع الأسرى داخل معتقلات الاحتلال خلال عقود من النضال انتزاع حقوق معيشيّة من خلال اضرابات الامعاء الخاوية وانتصروا لعنفوانهم ومطالبهم لجعل تلك المعتقلات لا تخضع بالمباشر لإرادة السجان، لتبدو ما تسمى مصلحة السجون كحراس او قتلة في معركة مواجهة، او إرهابيون في اي محاولة لقمع ارادة وقوة الاسرى، ففشلوا في النتيجة وأبدعوا في حقيقتهم كإدارة لكيان غاصب.
عززت معارك الأمعاء الخاوية الجدوى من خوضها كمعارك فرديَة، إذ كانت قضيَة الأسير فرديّة تحمل بين طياتها الحالة العامة والهم الجمعيّ والمواجهة باسم الأسرى جميعا، واستطاع من خاضها في السنوات الأخيرة انتزاع انتصار تاريخي بنيّل الحرية تحت شعار الموت او الحرية الجسديّة.
الشيخ الشهيد خضر عدنان استطاع خلال العقد الأخير انتزاع حريته بعد أن خاض أكثر من معركة في هذا الصدد وانتصر فيهم بنيّله الحرية ليصبح نموذج ملهم يقتدى فيه، حيث أضرب الشيخ الشهيد للمرة الرابعة، وهذه المرة ليس رفضا للاعتقال الإداري الذي فرض عليه سابقا أكثر من مرة بما يعني من اعتقال يسلب حريته دون تهمة موجهة، إنما أضرب الشيخ الجليل هذه المرة رفضاً لكلّ منظومة إبقائه رهن الاعتقال بتوجيه تهم واهيّة في الحالة القانونيّة الطبيعيّة لا يبقى رهن الاعتقال وفقاً لها، أضرب وهو يرفض أن يكون بقاؤه حراً رهنا لمنظومة الاحتلال والاستعمار الذي يسلبه الوطن ويحاول أن يسلبه حريته وانسانيّته، مدعية وجود مجريات قضائيّة وإجراءات محاكمة، فكان الهدف «حرية» ولو كان الثمن روحه. فانتصر مرات عدة ليس بنيل الحرية فقط في المرات الثلاث انما بالحد من محاولات الاحتلال النيل من كرامته، كما انتصر أيضا في المرة الأخيرة في ارتقائه شهيدا.
فمن البديهي انّ الشهيد خضر عدنان أدرك أنّ قرار عدم الاستسلام حتى إذا كانت النتيجة نيّله الشهادة، لن تحرر فلسطين، لكنه كغيره من المقاومين أدرك انه سيزرع في نعش الاحتلال مسماراً جديداً، فتداعيات استشهاده سنراها مستقبلاً في اي معركة من هذا النوع، والأيام ستبدي أنّ تقديرات الاحتلال بأنّ موته سيعزز القلق من خوض مثل هذه المعارك مخطئة. ارتقائه شهيداً في زمن استعاد الفلسطينيون حقيقة انها معركة وجود وليس حدود يجعل منه بكل يقين أيقونة ونموذج لمعنى المقاومة حتى الشهادة والجدوى منها، وتداعيات استشهاده ستكون نقطة تحول في اي معركة جديدة فرديَّة او جمعيَّة، لينتفض الشارع قبل فوات الأوان.
ان الأسرى والشهداء الأسرى والأسرى الشهداء المحتجزة جثامينهم قضيَّة كل فلسطيني، ومن نافل القول ان هذا النموذج في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني والأراضي المحتلة الأخرى في الجولان أكد أن صاحب الحق سلطان حتى لو كان مقيَّد بجدران اسمنتيَّة، فكلمة أسير أصبحت مصطلحاً فيه معاني لمجتمع لا يمكن هزيمته.
ومما لا شك فيه إذا جعلنا الميزان لتحديد النصر من خلال أهداف الاحتلال، فإنّ الحركة الأسيرة انتصرت لذاتها وحققت معادلة وجوديّة أخرى، وأصبحت عمود خيّمة القضيّة وعصبها الذي يمثل الشعب الفلسطيني بشكل عام.