إدارة ترامب ومراكز الأبحاث: المُقرّبون الجُدُد!
الميادين.نت ـ
منذر سليمان:
أدّى انتخاب دونالد ترامب إلى سباق وتنافُس بين مراكز الفكر والأبحاث المُتعدّدة التي تتّخذ من العاصمة واشنطن مقرّاً لها، للاصطفاف المُسبق والإعداد للتأثير في وجهة سياسة الإدارة الجديدة. بعضها سيستعيد سابق عهده في الصدارة والنفوذ، والبعض الآخر ستضمر أهميته غداة انتهاء ولاية الرئيس أوباما. مصير السيّدة كلينتون السياسي انتهى عملياً وربما إلى غير رجعة ، ويرجّح أنها ستختفي تماماً من المشهد السياسي عقب الهزيمة المدوّية أمام شخص غريب الأطوار أجمع مُعارضوه على عدم أهليّته لمنصب الرئاسة وافتقاره للكياسة والخبرة المطلوبة.
تراجُع نفوذ
من أبرز المؤسسات الفكرية التي لعبت دوراً إبّان فترة الانتخابات كان مركز التطوّر الأميركي الذي كان بمثابة الذِراع الأيديولوجية المُروّجة لتوجّهات الرئيس أوباما، بل كان له إسهام مباشر في اختيار بعض عناصر الإدارة. يترأّس المركز مدير حملة كلينتون الانتخابية السابق، جون بودستا، والذي أتى بأعوان ومُقرّبين ذوي ميول ديموقراطية تقليدية.
من المُرجّح التحاق عدد من مسؤولي إدارة الرئيس أوباما بالمركز لممارسة دور “حكومة الظلّ،” في بلورة سياسات وتوجّهات ليبرالية ، تقع مسؤولية تبنّيها وإبرامها على عاتق الممثّلين عن الحزب الديمقراطي في مجلسي الكونغرس. في هذا الصدد، باشرت المدير التنفيذي للمركز، نيرا تاندن، بتحفيز قواعد الحزب الديمقراطي مناشدة مموّليه استمرارية الدعم تحت شعار “لم يكن عملنا أشدّ أهمية” من المرحلة المقبلة.
من بين المراكز التي ستشهد تراجعاً في نفوذها أيضاً مركز الأمن الأميركي الجديد، الذي انصبّت جهوده السابقة على بلورة الاستراتيجية العسكرية الأميركية لإدارة الرئيس أوباما.
معهد بروكينغز العريق ستتراجع أهميته نظراً إلى طبيعة برامجه التي تُعدّ “مطبخ الأجندة” للحزب الديمقراطي. يُذكر أن مراسلات السيّدة كلينتون الإلكترونية التي نشرتها ويكيليكس، أتت على ذِكر المعهد نحو 1500 مرة.
لعب معهد بروكينغز دوراً مُميزاً طيلة السنوات الثماني الماضية وخسارة السيّدة كلينتون تُضاعِف حجم تهاوي نفوذه عند الأخذ بعين الاعتبار أن إدارة الرئيس أوباما، في ولايتيه الرئاسيتين، آثرت الاعتماد على إنتاج مركز التقدّم الأميركي.
تضاؤل النفوذ لا يقتصر على المؤسسات المُقرّبة من الحزب الديمقراطي فحسب، بل ستشمل بعضاً من المراكز المقرونة بأجندة المحافظين الجُدُد، أبرزها معهد الدراسات الحربية الذي طالب بانتهاج الإدارة سياسة أكثر تشدّداً في سوريا. الرئيس المُنتخَب ترامب أوضح أن أولى مهامه ستتركّز على “إلحاق الهزيمة” بتنظيم الدولة الإسلامية عوضاً عن سياسة “تغيير النظام” في سوريا. تلاشي بعض جوانب نفوذ المعهد سيتم التعويض عنها عبر ضغوط يمارسها على أعضاء الكونغرس.
من بين المراكز “الحسّاسة” في صوغ توجّهات السياسة الأميركية مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الذي يزعم اتّباع سياسة وسطية بين الحزبين ولكنه يعبّر عن سياسة أقرب إلى التيّار الجمهوري التقليدي والمحافظ. إدارة ترامب المقبلة قد لا تولي دراسات المركز الأهمية التي يطمح إليها تحت مظلّة إدارة مؤيّدة للحزب الجمهوري، كما شهد سابقاً.
إدارة ترامب ومراكز الأبحاث
علاقة السيّد ترامب بمعظم مراكز الأبحاث كانت متوتّرة كما شهدنا خلال حملته الانتخابية. نُخَب المراكز اعتبرته شخصاً آتياً من خارج المؤسسة الحاكِمة وحظوظه في الفوز كانت ضئيلة. ترامب، بالمقابل، أعرب عن نيّته تقليص نفوذ “أركان المؤسسة،” ومنها مراكز الأبحاث.
المراكز البحثية بشقّيها، المحافِظ والليبرالي، تشاطرت في رؤيتها الدونية لدونالد ترامب. أحد مدراء معهد المشروع الأميركي، دانييل بليتكا، وصفت ترامب “بالأحمق.” زملاء باحثون آخرون نعتوه بأوصاف سلبية وأقل إهانة.
فوز ترامب “المُفاجىء” حفّز عدداً من مسؤولي مراكز الأبحاث إعادة النظر بمواقفهم السابقة والمُبادرة إلى الاتصال بأعضاء فريقه الانتقالي، ولكن ترامب لم يخفِ امتعاضه وتوجّسه. ما يتردّد في الأروقة السياسية أن الرئيس السابق لفريق ترامب الانتقالي، كريس كريستي، تمّت إقالته على خلفيّة ميله لضم عناصر من مراكز الأبحاث المُختلفة إلى طاقمه.
يُشار إلى أن جملة وعود انتخابية صرّح بها ترامب لم تخضع للبحث والتمحيص خلال الحملة، الأمر الذي سيحفّز أعضاء المراكز المُقرّبة من المحافظين على تصدّر مهام تنقيح وبلورة تلك الوعود إلى برامج قابلة للتطبيق.
لم يعد سراً أن فريق ترامب الانتخابي لم يتوقّع فوز مُرشّحه، وبالتالي لم يشغل نفسه بالتحضير والإعداد لفريق المرحلة الانتقالية. ووجد نفسه أمام نحو 4000 موقع شاغرة يتعيّن عليه سدّ فجوتها في أقرب وقت مُمكن، مُعظمها لمواقع تعيين بقرار رئاسي، وما يرافق العملية من إجراءات تقصي وتحقيق مطولّة يقوم بها مكتب التحقيقات الفيدرالي، لتصفية القوائم. أمام هذا التحدّي تتعاظم أهمية مراكز الأبحاث لإعداد القوائم الجاهزة من بين صفوفها، وما يترتّب عليها من تدوير نفوذها مرة أخرى. أحد وعود ترامب الانتخابية البرّاقة كان عزمه “تجفيف مُستنقع” المناصب السياسية المُرتبطة بالمؤسسة الحاكِمة، واستبداله بآخرين. في ظلّ هكذا مناخ سيجد ترامب صعوبة بالغة للوفاء بوعده.
أُذن ترامب لمَن؟
ليس مُستبعدا أن تعود مؤسسة هاريتاج لتصدّر الخزّان الفكري لإدارة ترامب، المقرونة بالأجندة المحافظة والمُتشدّدة. البعض ومن باب الطرافة يقرن مقرّ المؤسسة بفريق ترامب الانتقالي في واشنطن عندما يسأل عن عنوان مقرّه . من بين مسؤولي المؤسسة برزت ريباكه ميرسر، عضو مجلس أمناء هاريتاج ومن بين كبار مموّلي الحزب الجمهوري؛ إد ميس، المسؤول الأسبق في إدارة الرئيس ريغان ويُعتبر من حُكماء المؤسسة؛ جيمس جاي كارفانو، نائب رئيس مؤسسة هاريتاج وخبير في شؤون الأمن القومي؛ أدوين فولنر، الرئيس السابق لمؤسسة هاريتاج.
عند التدقيق بوعود ترامب الانتخابية يجد المرء مدى تطابقها مع توجّهات وسياسات مؤسسة هاريتاج، كأحد أبرز معاقل فكر اليمين المحافظ. غني عن القول أن المؤسسة أسهمت بشكل ٍعميق في بلورة سياسات الإدارات الجمهورية السابقة، ولديها علاقات وثيقة بقيادات الحزب الجمهوري في مجلسي الكونغرس، وتجدر الإشارة إلى أن أهم ركيزة في وعود ترامب “إلغاء واستبدال أوباماكير،” للرعاية الصحية الشاملة، يجد ترجمة له في أدبيات المؤسسة وترجمتها لسياسات رسمية.
ما يُعزّز تلك الفرَضية تصريح نائب رئيس المؤسسة للأبحاث، جيمس وولنر، الذي أقرّ ببلورة المراحل الأخيرة من البرامج قائلاً “لا يتوفّر لدى المرء مُتّسع من الوقت لاستيعاب حجم هائل من القضايا والأدبيات تعيننا التوصّل للحظة تنوير مفادها ، إننا استطعنا التوصّل إلى آلية حل مُعضلة برنامج الرعاية الصحية.” وأضاف موضحاً أن المطلوب التوصّل إلى صيغة عملية للكمّ الهائل أمامنا كي نستطيع استيعابه تهيئة لشرحه للمسؤولين واقتراح سُبل تطبيقها.
غنيّ عن القول أن العلاقة الراهنة بين ترامب ومؤسسة هاريتاج ليست على ما يُرام، وقد يلجأ إلى تلقّي الاستشارة مكاناً آخر. من القضايا الخلافية بين ترامب ومؤسسة هاريتاج الموقف من روسيا إذ يسعى الأول لتوسيع مجالات التعاون معها، لا سيما في سوريا، بينما تعتبرها المؤسسة تهديداً جادّاً. كما عزّز ترامب اتصالاته الأولية مع الرئيس الروسي عبر مُكالمة هاتفية أكّد فيها على ضرورة سعي البلدين لتعزيز آفاق التعاون بينهما، لتشمل سوريا.
بالتزامن، أصدرت مؤسسة هاريتاج الأسبوع الماضي دراستها حول “مؤشّر القوة العسكرية الأميركية لعام 2017،” مُجدّدة رؤيتها العدائية نحو روسيا بالقول إن سياستها “ترمي إلى تحقيق أقصى قدر من التموضع الاستراتيجي في العالم على حساب الولايات المتحدة.” وأضافت إن روسيا “تسعى أيضا إلى تقويض نفوذ ومكانة الولايات المتحدة والتحرّش بها وقوات حلف الناتو، وتنشط في هذه المهام لإفشال السياسة الأميركية ومعها السياسة الغربية في سوريا .. ما يُعزّز المؤشّر بين أيدينا لتقييم شمولية التهديد القادم من روسيا كـ “عدائي وهائل”.
وفي سياق مُتصل، أوردت الدراسة نواحي تتّفق فيها مع توجّهات ترامب بالترويج لحال القوة العسكرية الأميركية إنها تتراوح بين “هامشية وتمضي نحو الضعف.” يُشار إلى أن الخطاب الانتخابي لترامب كرّر مرارا عزمه على إعادة بناء القوات العسكرية الأميركية.
نقاط تقاطع توجّهات ترامب مع آلية تفكير مؤسسة هاريتاج لا تشكّل حافزاً بحد ذاتها لاعتماد ترامب على “استشاراتها ونصائحها؛” بل قد يجد ما يفيده من سياسات مُرتقبة حول روسيا في أماكن أخرى بعيدة عن مؤسسة المُحافظين الجُدُد بامتياز. من بين المراكز المُرشّحة، في هذا السياق، يصعد معهد كاتو، ذو التوجّه الليبرالي المُحافظ والمؤيّد لانتهاج سياسة فاعلة مع روسيا. كما أن الأخير ينادي بتقليص حجم الكادر والمؤسسات الحكومية، ما يصبّ في دائرة ارتكاز سياسات ترامب بـ “تجفيف المستنقع” الفيدرالي.
من بين الشخصيات الثابتة في الإعلام الموالي للمحافظين، السفير الأميركي الأسبق لدى الأمم المتحدة، جون بولتون الذي يعمل من خلال معهد المشروع الأميركي للترويج للسياسات المُتشدّدة والإقصائية. يُشار إلى أن مجلس إدارة المعهد يضمّ عدداً من ممثّلي الشركات الكبرى والمصرفية، والذين واصلوا حملة انتقاداتهم لفريق ترامب بعد فوزه.
في المُحصّلة العامة، من المُستبعد أن يُحابي ترامب مركز أبحاث بعينه خشية سيطرته على البرامج والأفكار التي يحملها ترامب. بيد أن مؤسسة هاريتاج مُرشّحة للعب دور بارز كونها الأقرب لتوجّهات ترامب. أما في مسائل وقضايا تتعلّق بروسيا وسوريا، سنشهد تبايناً وربما انقساماً بين توجّهات تلك المؤسسة وترامب الذي سيجنح إلى طلب المشورَة والنصائح من مجموعة من المراكز النافِذة.