.. أُشفِق على أحمد الأسير!
موقع إنباء الإخباري ـ
بتول زين الدين:
الزمان: ليلة الخامس والعشرين من أيار عام 2000.
المكان: بوابة فاطمة عند الحدود اللبنانية ـ الفلسطينة (المحتلة).
المشهد الحدث: مئات من العملاء وعوائلهم يتهافتون للفرار، الصهاينة يتأملون المشهد بلذة، الأبواب موصدة.
المشهد يتكرر بعد ثلاثة عشر عاماً، لم يفت على أحد متابعة المشاهد التي حدثت في صيدا مؤخرا،ً وتحديداً في عبرا، إلا اللهم من يقطن في القرى النائية حيث وجود الكهرباء بات يحتاج صلاة إستسقاء.
رجال، بل فتية بغالبهم لا يدركون شيئاً سوى: “إحمل البارودة وقوّص”، من؟ لماذا؟ لا جواب.
المشهد يتكرر نعم، ولكن بإختلاف الأطراف المتقاتلة، هنا تولى الجيش اللبناني الدفاع، رغم أن المعتدي في المشهد الأول والمحاصَر في المشهد الثاني عدوه واحد : “حزب الله”. ففي الأولى كان الحزب يحول دون أطماع الصهاينة في إستباحة الأرض والعرض، وفي الثانية كان الحقد منصباً على “العدو” نفسه حقداً على القوة التي يتمتع بها ذاك “العدو” تحصيناً للبنان.
المشهد يتكرر نعم، فبعد أن لاذ الأسير بالفرار وبات أسيراً متوارياً عن الأنظار، انقطع التواصل مع عناصر، ومن جنّدهُم ـ على إختلاف جنسياتهم ـ حتى أن أحدهم سوداني الجنسية ظل يقف عند مدخل البناية حاملاً “بندقيته” وجعبته ولم تصل إليه أنباء عن إنتهاء المعركة حتى شاهده الجيش اللبناني وألقى القبض عليه.
هو فرّ وهم إعتقلوا وسجنوا وقتلوا.
هو فرّ ومن صنعوه يرتعون ويلعبون ويمرحون، ولذا أشفق عليه…
نعم أُشفق على أحمد الأسير، شفقة على شخص فبركه كثيرون، وعند الشدة خذلوه، بل ولعنوه، وبالإذن من القارئ الكريم إستحضر المثل القائل: عندما تسقط البقرة تكثر سكاكينها (وبالعامية بيكتروا سلاخينها)، مثل قديم منتشر في جميع الدول العربية.
المشهد يتكرر حين قال كبير اللحديين مقولته الشهيرة : “كنا متوقعين ننكحت (نطرد) ولكن بشرف”.
شرف يذكرني بتلك التي تحاضر بالعفة وهي “بيّاعة هوى”..
أشفق عليه، لا تعاطفاً ولا شماتة ولا من منطلق تحويل الجلاد إلى ضحية، بل لأنه فدى بنفسه هؤلاء…
لأنه كان يملى عليه ولم يكن يجيد على “عناصره” الإملاء، رغم براعته في الإنشاء.
أشفق عليه لأنه كان يحارب علانية، كان عداؤه ظاهراً ، لأنه غرّر به ولم يرتدِ قناع..
لأننا تعلمنا من محمد (ص) متى نصفح ومتى نصفع.
أشفق، ولعل الكثير سيلومني، ولكنني هكذا تعلمت من محمد (ص).
أليس عندما فتح مكة، مكة التي أخرجته، مكة التي ائتمرت على قتله، مكة التي نكّلت بأصحابه، مكة التي حاربته ثلاثة حروب، بدر، وأحد، والخندق، مكة التي تفنّنت بقتل أصحابه، أي قريش التي تألبت عليه وجرّعته ألوان الغصص، حتى اضطرته الى مغادرة أهله وبلاده. أليس هو من قال لما نصره اللّه عليهم: ما تقولون إني فاعل بكم؟!
قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.
نعم، حين فتح محمد(ص) مكة بنفس رحيمة، وبـ “لا تثريب عليكم”، افتتح مدرسة في الحلم والعفو والصفح، خصوصاً عند المقدرة على الإنتقام والثأر. عفا عنهم (ص) مع مقدرته عليهم، مؤكداً أن العفو عند المقدرة من شيم الكرام وليس الضعفاء: إنها عين الرحمة. أليس الله جلّ اسمه قال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين؟؟
المدرسة التي افتتحها محمد(ص) علّمتنا متى نغضب ومتى نلين، علّمتنا أن لا ننحني أمام السكين وأن لا نشهر السكين سوى على من يريد لنا أن نستكين، فرفع السكين على الضيف ليس قوة بل إستقواء. أليس حفيد محمد(ص)، الحسين عليه السلام، بكى محاربيه حين خرج طالباً الإصلاح في أمة جده، لأنهم سيدخلون النار بسببه؟؟
فعن أي محمد يتكلمون؟
بين تحريف محمد (ص) وتعريفه تنوء البشريّة
إذاً، وليس بعيداً عن الأسير، وفي موازاة الحرب الناعمة الصلبة التي نواجهها والتي تحاول بأحد مصاديقها الإطاحة بقدسيّة الرموز والمس بالمقدّسات ومحاولة تدنيسها، يواجه عالمنا اليوم في ما يخصّ محمداً (صلى الله عليه وآله) وأتباعه حركتين متناقضتين بل ونموذجين مرجعيين لا يلتقيان: الأول تحريف محمد، والثاني تعريف محمد، وما بين الطمس والإظهار والتصدي تنوء البشريّة.
وفي الوقت الذي يسعى فيه الكثيرون إلى تحريف محمد(ص) ، يتمخض الواجب في إعادة تعريف الناس بمحمد (ص). أستشهد هنا بقول الشاعر الروسي الشهير ألكسندر بوشكين، (قصائد شرقية) ، عن النبي محمد (ص): “شُقّ الصدر، ونُزع منه القلب الخافق … غسلته الملائكة ، ثم أُثبت مكانه! قم أيها النبي وطف العالم …. وأشعل النور في قلوب الناس”.
وللأسير بدائل..
لم تكد شرارة عبرا تنطفئ ، حتى بتنا نشهد حالة بحث عن بديل للفارَ. لم تكن عبرا عِبرة، فبعد الأسير، ثمة أسرى كثيرون كانوا مختبئين، ومن اليسير إيجاد بدائل أسيرية، و”الظاهرة الأسيرية” كما إصطلح على تسميتها تغلغلت في النسيج اللبناني وباتت نهجاً هدفه نزع قوة لبنان.
أمس، ضجت الصفحات الفايسبوكية بالسؤال الأسبوعي للبرنامج السياسي المعهود بتخطيه للمبادئ المهنية والأخلاقية لمهنة الصحافة، سؤال يشكك بلبنانية حزبٍ جلّ همه الدفاع عن قدسية الأراضي اللبنانية.
حقاً إنه لمن نكد الدهر أن يتناسى ذاك “الإعلامي” الوقح دماء آلاف الشهداء الذين صنعوا المشهد الأول (25 أيار)، شهداء سقطوا دفاعاً عن الأراضي اللبنانية كافة.
كيف يمكنه أن يسير أمام من أفقده الدفاع قدميه؟ وِأن يلتذ بتأمل الأراضي المحررة أمام من أفقده الواجب المقدس حاسة البصر؟ أم كيف سيحتمل أنين تلك الطفلة التي لا زالت تتمتم حتى اليوم: “عندما حضنتني بالأمس يا أبي، قلت لي وداعاً ما قبلتني”… لم تعد صباحاً..
ولا زالت تنتظر.