أي معانٍ للاستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا؟
موقع قناة الميادين-
محمد سيف الدين:
مع استماتة التحالف الأطلسي لمنع سقوط كييف، كان الإنفاق العسكري يرتفع بصورةٍ بدا لاحقاً أنها كانت مفرطة، فتحوّلت الساحة الأوكرانية إلى محرقة للأسلحة، ولليورو والدولار في آنٍ واحد.
تتكثف المعطيات التي تشير إلى أزمة يواجهها التحالف الأطلسي في تأمين استدامة الإمداد العسكري بالذخائر والوسائل العسكرية إلى أوكرانيا.
آخر هذه المؤشرات أبرزه اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على مخزون الذخائر وقذائف المدفعية من كوريا الجنوبية، التي اتهمها قبل أسابيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنها تمد كييف بالسلاح ضد بلاده، وأصدرت بدورها سلسلة مواقف نافية على لسان رئيسها ووزير خارجيتها، وعبّرت عن حرصها على حسن العلاقات مع موسكو، مؤكدةً أنها لا تقدم إلى أوكرانيا سوى مساعداتٍ “غير فتاكة”، جلّها يندرج ضمن التقديمات الإنسانية والطبية.
البحث عن ذخائر لكييف
لم تحدث هذه التطورات فجأة؛ فالتحالف الأطلسي سبق أن أعلن عبر أطرافه المختلفة تعثر إمداد أوكرانيا بالسلاح بصورة مستدامة وبكمياتٍ كبيرة ومتواصلة، نظراً إلى تأثير ذلك على أمن الدول المرسِلة. بدأ ذلك بتململ سرى في صالونات النقاش السياسي في أوروبا الغربية، وما لبث أن خرج على لسان كبار المسؤولين. في 29 آب/أغسطس الماضي، تحدث مسؤولون أميركيون عن تضاؤل مقلق لمخزون قذائف المدفعية لدى الجيش الأميركي، بحسب “وول ستريت جورنال”. وهؤلاء أكدوا أن الوضع على الأرض في أوكرانيا أسوأ مما يبدو عليه، وأن هذه الأخيرة تستنزف ترسانة واشنطن من بعض أنواع الأسلحة والذخائر.
وفي 31 من الشهر نفسه، أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرخت أن بلادها وصلت بالفعل إلى الحد الأقصى من السلاح الذي يمكنها تقديمه لأوكرانيا، من دون الإضرار بقدرات الجيش الألماني. المستشار أولاف شولتس قال أيضاً إن الحرب صارت تهديداً غير مسبوق ٍعلى المستويين الاقتصادي والأمني، مع آفاقٍ مستقبلية قاتمة.
الأمر نفسه أعلنه بكلماتٍ أخرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو الذي يتعرض لانتقاداتٍ بسبب ضآلة مساهمة بلاده في دعم كييف على المستوى العسكري.
هناك في بروكسل أيضاً، خرج مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في السادس من أيلول/سبتمبر الفائت ليؤكد هذا السياق، بتحذيره من بدء نفاد مخزون الأسلحة لدى الاتحاد الأوروبي. وبالتأكيد، فإن المقصود بذلك هو الوصول إلى مستويات مقلقة من المخزونات، وليس نفادها بالمعنى الحرفي.
مخزونات السلاح الغربي تتضاءل
وفي البحث عن أسباب تراجع مخزون الأسلحة عموماً والذخائر خصوصاً، يمكن مراجعة بعض المعطيات.
أول الأسباب يرتبط بصورةٍ مباشرة بطبيعة المعركة العسكرية في الميدان، وبالفوارق التي تظهر تفوق القدرات العسكرية الروسية على تلك الأوكرانية بصورةٍ واضحة. فالقوات الأوكرانية اضطرت في الأسابيع الأولى للمعارك إلى أن تواجه على مساحة واسعة من البلاد، قبل أن تقلص موسكو نطاق عمليتها الخاصة في المناطق الشرقية والجنوبية-الشرقية، والتي أجريت فيها لاحقاً استفتاءات انضمت بموجبها إلى روسيا الاتحادية. لكن المرحلة الأولى التي شهدت مواجهةً على مساحة البلاد كلها أجبرت أوكرانيا على إنفاق الكثير من قدراتها التسليحية، خصوصاً أنها تعرضت لضرباتٍ موجعة خسرت بنتيجتها الكثير من قدراتها في سلاح الجو والبنى التحتية العسكرية. ومنذ ذلك الوقت، ومع استماتة التحالف الأطلسي لمنع سقوط كييف، كان الإنفاق العسكري يرتفع بصورةٍ بدا لاحقاً أنها كانت مفرطة. لقد تحولت الساحة الأوكرانية إلى محرقة للأسلحة، ولليورو والدولار في آنٍ واحد.
بحسب “الاندبندنت”، أرسلت الولايات المتحدة ثلث مخزونها من صواريخ “هيمارس” إلى كييف، الأمر عينه بالنسبة إلى صواريخ “جافلين” و”ستينغر”. هي تنتج سنوياً 5000 صاروخٍ من “هيمارس”، و1000 من “جافلين”، بينما مدّت المعركة ضد روسيا بضعف ذلك، بالإضافة إلى800 ألف قذيفة مدفعية من عيار 155 مم، أي أنها استثمرت في هذه الحرب إنتاج سنوات من مصانعها. الآن، اشتعل الضوء الأحمر عند جنرالات الجيش، لا يمكن النزول تحت هذا الخط.
وارتباطاً بالسبب الأول، كان السبب الثاني يتعلق بحقائق عسكرية معلومة، تجعل من طول أمد المعركة وصفةً ملائمة تماماً لإحداث الفقر التسلحي. فحجم القاعدة الصناعية في الدول الغربية الداعمة، وقدرات الإنتاج فيها على مستويي الأسلحة والذخائر، يتناسبان فقط مع الحاجات في أوقات السلم، بينما تخلق أوقات الحرب طلباً مضخماً على السلاح، تتسع معه الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك كل يوم. لذلك، فإن القوات الأوكرانية تحديداً تحتاج إلى جسور إمدادٍ دائمة خلال المعارك، وبمجرد تعثر الإمدادات عبر هذه الشرايين تتأثر النتائج الميدانية بصورةٍ أكيدة.
وفي المعطيات المهمة في هذا السياق، هناك ملاحظة لافتة، إذ لا يمكن للغرب، ولروسيا أيضاً، إظهار كل قدراتهم العسكرية، والكشف عن بطاقاتهم الرابحة في هذا السياق، خوفاً من التعري الاستراتيجي أمام الخصم، وتحسباً لتوسع المواجهة. هنا، تلعب ضرورات الأمن الاستراتيجي وسرية القدرات العسكرية التكنولوجية والصناعية دوراً بارزاً في ضبط مستوى ونوع الأسلحة المستخدمة في المواجهة، في رقعتها الحالية، فماذا لو كشف أحد الطرفين عن كامل قدراته الآن، ثم توسعت المواجهة إلى حرب كبرى تالياً؟ سيكون قد تأخر بخطوة، وسيخسر الحرب قبل انطلاقها.
استراتيجية الضغوط المتنوعة
هذا بالنسبة إلى أوكرانيا والتحالف الأطلسي، لكن ماذا عن روسيا؟ ألا يجب أن تنسحب فجوة التسليح على القوات الروسية أيضاً؟
هذان السؤالان يوصلان إلى البحث في طبيعة الاستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومتفرعاتها التكتيكية واللوجستية، ثم إلى الاستراتيجية الروسية العامة للمواجهة مع الغرب. فمنذ اللحظة الأولى لإعلان العملية الخاصة، كانت دوائر القرار في موسكو تتحدث عن مواجهةٍ مع الغرب، وليس مع كييف فحسب.
هذا التصور الروسي لإطار المواجهة، شرحه بوتين في خطاباته المتتالية بعد بدء العملية في أوكرانيا. إنها مواجهةٌ متعددة الأبعاد، تحمل في طياتها تهديدات وفرصاً، سياسياً واقتصادياً وحضارياً واجتماعياً وثقافياً… وهي بذلك تتطلب وسائل من هذه الأنواع المختلفة نفسها. وبالتالي، فإن الصراع العسكري لا يعدو كونه أحد ميادين الصراع الشامل، الأمر الذي يستدعي أن تكون الاستراتيجية العسكرية بتكتيكاتها المتنوعة في خدمة الاستراتيجية العامة بالضرورة.
وهكذا، يمكن تفسير انسحابات روسية عديدة من المواجهة في محاور معينة، أثارت الكثير من الجدل في موسكو، لكنها في النهاية خدمت في توفير الأرواح، وتقنين استخدام الموارد العسكرية، ومنها السلاح والذخيرة، واعتماد استراتيجية النفس الطويل للوصول إلى تحقيق الأهداف، ويمكن ملاحظة تكتيكات محددة لهذه الاستراتيجية مثل:
– تجنب المواجهات المفتوحة والمعارك الطاحنة، باستثناء ما تفرضه ظروف الميدان، مع وجود خطوطٍ حمر يجب الحفاظ عليها.
– استنزاف الأسلحة والذخائر لدى القوات الأوكرانية، وزيادة حاجتها إلى المساعدات الخارجية بصورةٍ منهكة للطرفين الأوكراني والغربي.
– إغراء القوات المهاجمة للتقدم على بعض الجبهات، ثم التعامل معها بالقصف الصاروخي البعيد، والمسيرات، وأحياناً بالاشتباك المحدود.
– استخدام الوقت كعامل مساعد لتحقيق الأهداف الروسية، بحيث يتحول اقتراب الشتاء إلى عامل ضغطٍ شديد على التحالف الغربي.
– موازاة تثقيل وطأة الإنفاق العسكري مع زيادة الضغوط الطاقوية، وإضافتها إلى التفاعلات الاقتصادية السلبية السابقة للأزمة.
تمكنت هذه الاستراتيجية من إثبات فاعليتها بدرجةٍ عالية، ساهمت في مفاقمة الأزمة الاقتصادية في الغرب، وإشعال خلافات حقيقية وملموسة داخل التحالف الأطلسي، في الوقت الذي تتحول فيه أوكرانيا إلى عبءٍ على الديمقراطيات الغربية. موسكو لا تنسى أن انهيار الاتحاد السوفياتي حدث تحت وطأة الاقتصاد والعسكرة. وهي الآن تضغط بهما على الغرب.
لكن، في المقابل، لا يبدو الأداء العسكري الروسي مرضياً تماماً لمجتمع الأنتلجنسيا الروسية، وللنقاش العام في البلاد بصورة عامة. يعود ذلك في جزءٍ منه إلى صدى التقدم الذي حققته القوات الأوكرانية على الأرض في غير مكان، وفي جزءٍ آخر منه، يعود إلى المواكبة الإعلامية الغربية لهذه المنجزات، والنسق الدعائي الذي يرافق كل خطوة تقوم بها القوات الأوكرانية. بالإضافة إلى عامل مهم جداً يرتبط بآلية صناعة القرار في موسكو، وهو غموض أسلوب بوتين في التحرك على رقعة اللعب، ومواقيته التي لا يعرفها كثيرون. في موسكو، يدرج القول بين كبار الاستراتيجيين إن أحداً لا يعرف بمَ يفكر بوتين، ومتى يتحرك، لكن الجميع يعرف عنه أنه حاسمٌ حين يتحرك.
صعوبة استدامة المساعدات
لكن، ومع كل ذلك، لماذا لا يمكن للغرب أن يستمر في مد أوكرانيا بالسلاح في معركة غير محددة زمنياً؟
أولاً: يدرك التحالف الغربي أنه يتعين عليه السير بين الألغام لمساعدة دولة خارج “الناتو”، مع خطورة أن تنزلق الأمور بفعل الجاذبية إلى مواجهة مفتوحة بين روسيا والحلف. سيكون ذلك لعباً بالنار قد يقود إلى كارثة.
ثانياً: لا تسمح طبيعة الديمقراطيات الغربية بتوقيع “شيكات على بياض” لكييف، خصوصاً مع وجود محاسبة شعبية وسياسية مستمرة للسلطة الحاكمة.
ثالثاً: الصراع الشديد على السلطة في معظم الديمقراطيات الغربية، الذي يجعل من الإنفاق على حروبٍ خارجية ملفاً رئيساً في كل استحقاق انتخابي، يساهم إلى حدٍ بعيد إما في تعويم تيارات وأشخاص، أو في إغراق آخرين.
رابعاً: الصعود الملحوظ لليمين في العديد من الدول الغربية، الأمر الذي يدفع باتجاه سياساتٍ وطنية بدلاً من سياسات الشراكة مع الخارج.
خامساً: وجود تهديدات للأمن القومي لدى كل دولة من دول التحالف على حدة، الأمر الذي يجعل مواجهة هذه التهديدات أولوية المستوى السياسي فيها، على حساب الأولويات التحالفية.
سادساً: مساهمة السياق السياسي السابق للأزمة، وخلالها، في تفخيخ بيئة الثقة بين الحلفاء، إذ تأثرت هذه البيئة بأحداث عديدة (صفقات عسكرية وتحالفات فرعية مثل “أوكوس”، وسياسات اقتصادية وطنية، ألمانيا والولايات المتحدة مثلان على ذلك).
سابعاً: انعكاسات الأزمة الاقتصادية المتصاعدة، ومضامينها المتعلقة بالتضخم والديون وسياسات البنوك المركزية، خصوصاً الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
في التفاعلات المتوقعة
بالمحصلة، تطلب واشنطن الذخائر من دول بقيت خارج دائرة الأزمات الحالية، تبرز اليوم من بينها كوريا الجنوبية. الطرفان يجريان محادثات بشأن إمداد سيؤول لواشنطن بـ 100 ألف قذيفة مدفعية من عيار 155مم. تحاول واشنطن توزيع أعباء الحرب على الحلفاء، خارج “الناتو” هذه المرة، بعد تزايد الخلافات داخل دوله.
هناك أيضاً بعدٌ داخلي لعملية التوزيع هذه؛ فالحزب الديمقراطي خسر الأغلبية في مجلس النواب الأميركي، وهذا الأخير يبتّ في مسائل الإنفاق المالي، خصوصاً تلك الموجهة إلى الخارج. سوف تعاني إدارة بايدن إذاً من مصاعب جمة في توفير إمدادٍ دائم بالذخائر من الاحتياطات الأميركية المتضائلة. كل زيادةٍ في الإنفاق ستكون خبراً جيداً لدونالد ترامب يساعده في حملته الرئاسية الجديدة. يمكن لكوريا الجنوبية والدول الحليفة الأخرى خارج “الناتو” التخفيف من هذه الأعباء وخلق هامش مناورة لبايدن، يلتف من خلاله على الجمهوريين.
لكن سيؤول غير قادرةٍ على الذهاب بعيداً في إمداد أوكرانيا بالسلاح، فهي واقعة ضمن فلك التهديدات الكورية الشمالية. سينتظر كيم جونغ أون نصف فرصة للانقضاض. البيئة الاستراتيجية في الشرق الأقصى تشجع ذلك. تطورات تايوان تصبح مقلقة جداً، والنهج الأميركي ضد الصين والمؤيد من الحزبين يؤكد ذلك. لن تخاطر سيؤول بأن تتحول إلى ساحة لتصفية هذه الحسابات. لذلك، يصر قادتها على تأكيد حصر مساهمتهم بالمساعدات غير الفتاكة.
هذه التطورات تفضي إلى استنتاجات واضحة نوعاً ما. ستزداد ضغوط الغرب على كييف من أجل الانفتاح على المسار السياسي، وتسريع الجلوس إلى طاولة المفاوضات ووقف الاستنزاف، على الأقل من أجل كسب الوقت لتمرير أشهر الشتاء من دون نزف بالأسلحة، وزيادة الأعباء الاقتصادية في الغرب، وإلهاء بوتين بالمفاوضات خلال الشتاء، الفصل الذي تنتصر فيه روسيا عادةً، والذي ستكون فيه ساحة الاقتصاد ملتهبة أكثر من ميدان الحرب.
روسيا من جانبها لن تكون مستعجلةً على المفاوضات خلال الشتاء. فحتى حلول الربيع، سيكتمل انضمام قوات التعبئة إلى الميدان، وسيكون لدى موسكو زخم عسكري جديد للتقدم والسيطرة على كامل حدود المقاطعات الأربع، ثم من هناك الضغط على أوديسا، وربما دخولها.
عندما سيحدث ذلك، سيكون اقتصاد الغرب قد وصل إلى أوج أزمة التضخم، وستكون أزمة الديون قد وصلت بالفعل إلى درجة الغليان. سيكون التحالف الأطلسي خارجاً من شتاءٍ منهك، مهجوساً بالشتاء الذي يليه، والذي سيكون كارثياً فيما لو استمرت الأمور بتفاعلاتها الطبيعية ومن دون مفاجآت.
هكذا، هي الاستراتيجية الروسية في الحرب الأوكرانية: استنزاف شامل، مساحة النشاط العسكري فيه محدودة، انتخابٌ دقيق للمعارك، ومحاولة الحصول من كل واحدةٍ منها على نتيجةٍ ثابتة. وهكذا أيضاً، سيكون الجزء الغربي من خيرسون قطعة مهمة جداً من المشهد فيما بعد، لكن محدودة التأثير في مسار الحرب الآن. هذه المدينة تحديداً مرشحة لأن تشهد تطوراتٍ مدهشة بالنسبة إلى مسار العملية العسكرية عند إتيان خواتيمها. البعض يتوقع أن تصبح خط الحدود النهائي بين روسيا وأوكرانيا، وآخرون يرون أنها المنطلق إلى أوديسا وترانسنستريا، في سيناريو نهاية المطاف. ولكنّ كليهما لا يعرفان كيف يفكر بوتين على وجه الدقة، ومتى سيطلق المفاجأة التالية.