أي مستقبل لمجتمع ينشأ على مشاهد الرؤوس المتطايرة؟… إعلام الدماء والأشلاء: انعدام للمسؤولية الاجتماعية
قطعوا رأسه بـ”الخطأ”، حملوه واستعرضوا أمام عدسة الكاميرا.. فأكمل الاعلام جريمتهم، ونقل الصورة الى بقاع الأرض.
في لبنان، تنقسم وسائل الاعلام بأنواعها وأطيافها وخلفياتها السياسية، الا انها تتوحد في تخطّي “المحظور” بغية الحصول على “السبق الصحفي” حيناً، أو لتشويه صورة الآخر أحياناً، أو اظهار عيوبه. وعلى طريق ايصال الخبر ونقل الوقائع للجمهور، تدوس وسائل الاتصال على القيم المفترض تدعيمها في المجتمع.
كثرت الجرائم المروّعة في الآونة الأخيرة وتعددت، لكن المجموعات المسلحة في سوريا بقيت هي المستحوذة على النسبة الأكبر من الفظاعة ، حيث أصبح مشهد قطع الرؤوس وتقطيع الأوصال وأكل قلوب البشر مشهداً طبيعياً مألوفاً تتنافس وسائل الاعلام في بثه ونقله الى المشاهد.
مثلاً، يمكنك وطفلك يجلس بجانبك، أن تتابع نشرة الأخبار على احدى شاشات التلفزة المصنّفة من بين “الأكثر مشاهدة” في لبنان، ليمرّ أمامك خلال “عناوين النشرة” مشهد لميليشياوي من مجرمي الحرب في سوريا وهو يرفع رأس انسان مقطوعاً ويلوح به في الهواء، دون أي تحذير مسبق من قساوة المشهد أو علامة تغطي قسماً من الصورة. هنا لا يبالي القيّمون على نشرات الأخبار او حتى على بعض المواقع الالكترونية بالآثار الخطيرة لهذه المشاهد على المتلقي بمختلف فئاته العمرية والاجتماعية. ما يهم هو “السكوب” او نقل الصورة كما هي، بحسب ما يبرر البعض.
انعدام حس المسؤولية في تغطية مآسي الحرب الدائرة في سوريا، ينسحب كذلك على بعض برامج التلفزة المحليّة التي تسعى الى ملاحقة الجرائم التي تحصل في لبنان وكيفية الكشف عن أسرارها. هنا، وعلى سبيل المثال أيضاً، تعرض وسائل الاعلام لجريمة قتل أب على يد أبنائه وزوجته، بما يشمل تفاصيل قاسية يصعب سماعها حول كيفية “تقطيع الجثة” وما الى ذلك.. والسؤال الذي يفرض نفسه: من الذي يضمن عدم مشاهدة الأطفال لهذه المادة الاعلامية الخطيرة؟ ما هي الرسالة التي من المفترض ان تؤديها هذه المادة الاعلامية؟
وبعد تغطية الحروب والجرائم الاجتماعية، نصل الى التفجيرات وصور الجثث المتفحّمة والمقطّعة أوصالها. أشلاء لا يميّز أصحابها ولا ماهيّتها. يُفرض على المشاهد رؤيتها دون اذنه.
قد يقول قائل إن نقل الوقائع على حقيقتها هو من أولى واجبات وسائل الاعلام، لكن “المسؤولية” تجاه المجتمع أيضاً هي من أهم واجباتها. فنقل الحقيقة ممكن لكن مع تحذير مسبق من مرارة صورها، أو مع تغطية جزئية لبعض الصور. ذلك أن الأثر الذي تتركه المشاهد “القاسية” من دماء ورؤوس مقطّعة وأشلاء على المتلقي لا يُستهان بها بحسب الاختصاصيين.
في هذا الاطار، يؤكد دكتور علم الاجتماع طلال عتريسي خطورة ما يتم عرضه في كثير من الأحيان على شاشات التلفزة وبعض المواقع الالكترونية من مشاهد قاسية لا تراعي خصوصية المتلقي. ويشير الى ان التكرار المستمر لمشاهد قطع الرؤوس يؤدي الى جعلها مألوفة ومقبولة في المجتمع، ومن هنا ينبع الخطر.
المدير السابق لكلية الاعلام والتوثيق في الفرع الاول د. علي رمّال كان له رأي أكثر تشدداً في هذه القضية، فهو يؤكد أن المسؤولية الاجتماعية والأخلاق الاعلامية تقتضي حجب هذه المشاهد الدموية مطلقاً، وليس تغطيتها أو التنبيه من فظاعتها.
ويشير الى أن هكذا مشاهد ممنوعة في كل دول العالم واظهارها يعرّض الوسيلة الاعلامية للملاحقة القانونية، مشددا على أن “هناك حرمة للجثث يجب احترامها، نحن اليوم نشاهد الناس كيف تمر بجانب الجثة دون أي اكثرات لها، كأن المشهد بات طبيعياً”.
يرى رمال ان ما يحدث اليوم على هذا الصعيد هو عملية تطبيع مع العنف، واصفاً هذه العملية بـ”الخطيرة” لأنها تؤدي إلى بناء مجتمع متوحش، ويقول إن “تكرار هذه المشاهد واعطاءها مساحة واسعة من الوقت يؤدي الى تخزين العنف في اللاوعي لدى المتلقي، وهو ما ينذر بخطر داهم في المستقبل”.
وفي الجانب النفسي للقضية، يرى المعالج النفسي الدكتور نبيل خوري أن هناك “محطات غير مسؤولة تعرض كل شيء بهدف الاثارة والسكوب وكسب عطف الجمهور”، مشيراً الى أن “تأثير المشاهد الدموية على المتلقي يختلف من شخص الى آخر، وبالتالي لا نستطيع ان ننتظر ردة فعل واحدة من جميع المتلقين”.
لكن خوري يركز في حديثه على الفئة العمرية الأكثر تأثراً بما يعرض، فيلفت الى أن “الأطفال ينزعجون بشدة من هذه المشاهد لأنهم أشخاص غير مؤهلين للوقوف أمام هذه الصور والتعليق عليها، هم يكتفون بتلقي الصدمة التي تؤدي بهم الى أفكار ليلية سيئة (أحلام وكوابيس) وبالتالي يحصل لديهم ضعف معنوي ينعكس على مستوى تواصلهم الاجتماعي وقد يؤدي بهم الى الاحباط”.
وأمام ما سبق، يدعو رمال الى العودة لمواثيق الشرف الاعلامية، معتبراً أن مشاهد العنف وقطع الرؤوس والأشلاء هي خارج فكرة “السبق الصحفي”.
دعوة رمال يلاقيها عتريسي مطالباً بايجاد أطر قانونية تنظّم مسألة عرض هذا النوع من المشاهد التي تتضمن حقائق دامية.
أما خوري، فيؤكد أنه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار المعايير الأخلاقية قبل نشر أي صورة، لأنها تعزز بشكل كبير الأزمات النفسية والعصبية لدى المتلقي.
المصدر: موقع العهد الإخباري