أي تأثيرات للإنتخابات التركية على السياسة الخارجية ومواقف الدول الإقليمية؟
موقع الخنادق-
زينب عقيل:
تتركز الاهتمامات الغربية والإقليمية في الانتخابات التركية، حول الآثار المترتبة على السياسة الخارجية للبلاد، والتغييرات التي يمكن توقعها في نهج أنقرة للعلاقات الدولية بعد جمع الأصوات، فإذا فاز أردوغان هل سيكون أكثر عدائية تجاه الغرب بسبب إحساسه الذي لا يقهر الذي سيبلغ ذروته، وسيسعى إلى دور أكبر على المستوى الإقليمي؟ أم أنه سيراعي حاجة تركيا إلى التدفقات الأجنبية فيدير سياسته الخارجية بأقل قدر من المغامرة؟ في المقابل، ماذا لو فازت المعارضة العلمانية، وما يُفترَض أنّ كل ما هو علماني فهو موالٍ للغرب؟ وما تأثير ذلك على روسيا والصين، بالإضافة إلى إشكالية أن المعارضة هي عبارة عن تجمع أحزاب ليس لديها قواسم مشتركة أيديولوجية ولا تصورات مشتركة سياسية، عدا أنها تعادي أردوغان، وهو الأمر الذي سيطرح سؤال: كيف ستتمكن هذه القوى غير الموحدة من إدارة الدولة العميقة التي تسيطر عليها نخب حزب العدالة والتنمية.
إيران
تاريخيًا، يمكن القول إن العلاقات التركية الإيرانية جيدة باختلاف الأنظمة الحاكمة، وهي علاقات تتجاذبها جدلية التعاون والتنافس، وقد شهدت العلاقات الاقتصادية نقلة كبيرة في عهد أردوغان، إلى أن حاولت تركيا في السنوات الماضية استخدام المحفزات العرقية في القوقاز ضد الشعب الإيراني، وقوبلت هذه السياسة بصمت طهران، لكن المجتمع الإيراني أدانها بشدة. وثمة قلق بالغ إزاء الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية في السنوات الماضية في مجال بناء سد وقطع المياه عن دول إيران والعراق وسوريا. يمكن التعبير عن هذه العلاقة مؤخرًا فيما يعتبر مزيجًا من الصداقة والعداوة، خاصة أنّ ثمة خلافات أساسية في الموضوع السوري، وفي ناغورني-كاراباخ حيث سياسة تعميق الهوة بين إيران وجمهورية أذربيجان.
السؤال المهم الذي يتبادر إلى الذهن هو إذا فاز كليجدار أوغلو هل سيعمد إلى تحسين علاقاته مع طهران؟ الواقع أن السياسة الخارجية لتركيا في العقود الماضية كانت تستند إلى مبادئ ثابتة، مشتقة من الجغرافيا السياسية ومتطلبات السياسة الداخلية للبلاد. خلال العشرين عامًا التي بقي فيها أردوغان في السلطة، شهدت السياسة الخارجية للبلاد العديد من التقلبات، ولكن مع مرور الوقت، أصبحت هذه السياسات أكثر عدوانية ولا يمكن التنبؤ بها. وبهذه الطريقة، لا يمكن توقع أن يُحدث كليجدار أوغلو تغييرًا كبيرًا في علاقات بلاده مع إيران،
روسيا
روسيا من الدول التي أقامت علاقات وثيقة وحساسة مع تركيا في السنوات الأخيرة، إذ تتفاعل مع تركيا في سوريا وأوكرانيا وفي أزمة ناغورنو كاراباخ. كان افتتاح محطة “آغ كويو” للطاقة النووية في السابع من مايو / أيار الجاري، والذي تم بحضور شخصي لفلاديمير بوتين، كان بمثابة مساعدة كبيرة لحملة أردوغان الانتخابية. أشاد الرئيس الروسي بأردوغان وقال: “السيد الرئيس أردوغان قادر جيدًا على تحديد الأهداف والتحرك نحوها بشكل حاسم”، من جهته غرّد كليجدار في توتير واتهم الروس بالتدخل في الانتخابات التركية لمصلحة أردوغان، طالبًا الكفّ عن دعم أردوغان إذا كانوا يريدون علاقات جيدة مع تركيا بعد الانتخابات”، لكنه أكد أنه ما زال “مع الصداقة والتعاون مع روسيا”. لطالما ردّد كليجدار سابقًا أنّ “على تركيا الوقوف إلى جانب أوكرانيا”. إلا أن معارضة حزب الشعب الجمهوري له، أنه ليس من مصلحة تركيا ان تكون في موقف معاد لروسيا، جعله يميل إلى أن “تركيا لا تستطيع التضحية بأوكرانيا ولا روسيا”، خاصة أن ثمة تفاعل بين موسكو وأنقرة في القوقاز وآسيا الوسطى، وسيؤثر سلبًا بطبيعة الحال في حال لم يكن هناك تفاهمات.
الولايات المتحدة
تخضع تركيا لما يسمى عقوبات أمريكية بسبب شرائها نظام الدفاع الجوي والصاروخي الروسي إس -400، يعتبر الأمريكيون أن أردوغان يطمح لأن يصبح لاعبًا رئيسيًا في البحر الأبيض المتوسط، والشرق الأوسط، خاصة أنه من الدول القليلة التي لديها علاقات قوية مع كل من روسيا وأوكرانيا، وقد لعب دورًا رئيسيًا في الحرب الروسية الأوكرانية، مع تعميق علاقاته مع موسكو. وبحجة تقويض سيادة القانون والمعايير الديمقراطية، قاطع جو بايدن أردوغان.
من جانبه، يستنكر أردوغان السياسة الأمريكية الداعمة للعناصر الكردية في سوريا التابعة لحزب العمال الكردستاني. كما أن تركيا قلقة من تعميق العلاقات السياسية والتعاون الدفاعي بين خصمها اللدود اليونان والولايات المتحدة.
في المقابل، وعد كليجدار أوغلو بتبني سياسة خارجية تحمل شعارًا ورديًا بالنسبة للولايات المتحدة والغرب: “السلام في الداخل، السلام في العالم”، وهو الشعار الشهير لكمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية وحزب كليجدار أوغلو. لا تخفي المعارضة التركية أنها تريد العودة لمسار الانضمام للاتحاد الأوروبي، والعلاقات مع الولايات المتحدة، صرّح أحد مستشاري كليجدار: “سنذكر روسيا أن تركيا دولة أطلسية”. أطراف الطاولة السداسية مثل باباجان رجل صندوق النقد، وداوود أوغلو، هما أطلسيان، ورجال ذوي ميول غربية واضحة، وبالطبع سيستفيد الغرب من الاضطرابات الحكومية التي يمكن أن تنشأ عن عدم توافق أجندات ائتلاف المعارضة في الشؤون الداخلية والذي يمكن أن يضعف الدولة، ما يسمح للولايات المتحدة بالنفوذ وملأ الفراغ كما اعتادت أن تفعل مع أنظمة الدول التي تريد السيطرة عليها.
سوريا
اثنا عشر عامًا من دعم تركيا لمعارضي النظام السوري والمشاركة في تدمير سوريا واحتلال مناطق نفوذ أو ما يسمى بالمنطقة الآمنة في شمال سوريا، بهدف تطهير كردستان سوريا من الأكراد واستبدالهم بالعرب والتركمان، وكان أردوغان قد توعّد الأسد في تغريدة عام 2013: “أقسم ستدفع الثمن غاليًا”، وعلى الرغم من ذلك، يحاول أردوغان لقاء الرئيس السوري من دون شروط مسبقة، لمحاولة إعادة اللاجئين السوريين والاستفادة من مزايا ذلك في الانتخابات. وهو الأمر الذي لم يقبله بشار الأسد، على الرغم من توسّط الرئيسين الروسي والإيراني.
بالنسبة للسوريين، يعتبر كليجدار أوغلو هو الخيار الأفضل إذ وعد أن يكون قطع علاقات أنقرة مع الفصائل السورية المسلحة ووقف كلّ أنواع الدعم لها أهم بند في حواره مع الرئيس الأسد، مع تحديد جدول زمني لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم خلال فترة أقصاها عامان. إلا أن كليجدار الذي لا يبدو قريبًا من الروس خاصة بعدما اتهمهم بالتدخل في الانتخابات لمصلحة أردوغان، قد لا ينجح في مساعيه للانفتاح على سوريا إلا عبر البوابة الروسية، “هذا بالطبع ما لم يكن هو ومن معه في تحالف الأمة ضحية مشروع أميركي جديد بعدما خسرت واشنطن المنطقة برمتها”، يقول المتخصص في الشؤون التركية حسني محلي. إلى ذلك، ثمة تشكيكات بأن التصريحات الانتخابية قد تتغيّر لاحقًا مع وجود نفوذ أمريكي – غربي على المعارضة.
العراق
ثمة ثلاث ملفات شائكة بين العراق وتركيا، هي الوجود العسكري التركي، وتحكّم تركيا بحصة العراق من مياه دجلة والفرات، واتهام تركيا بالسماح لكردستان العراق بتصدير النفط عبر ميناء جيهان التركي من دون موافقة الحكومة المركزية. كان الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد قد صرّح في يناير كانون الثاني من العام الحالي 2023 أن العلاقات مع تركيا “لا يمكن أن تكون طبيعية في نفس الوقت الذي يتم فيه خرق حدودنا”.
منذ العام 1992 تتمركز القوات التركية في مساحات جغرافية واسعة تقارب 100 كلم في عمق الأراضي التركية، ويقدّر عدد العسكريين الأتراك اليوم في العراق، بما يزيد عن 7 آلاف ضابط وجندي. ولها في إقليم كردستان 11 قاعدة عسكرية رئيسية، و24 معسكرًا تابعًا لها. كما تنشط الاستخبارات التركية “MIT” بشكل واسع في الإقليم، عبر 4 مقارّ رئيسية تتولى العمل في ملفات سياسية وعسكرية.
بالنسبة لأردوغان، ما برح ينظر إلى العراق على أنه جزء من المجال الحيوي لتركيا، وما انفكّ تركيزه كبيرًا على انهاء ملف حزب العمال الكردستاني الناشط في إقليم كردستان. في المقابل، لا ينظر العراقيون بتفاؤل إلى السياسة الخارجية التركية الجديدة في حال فاز كليجدار أوغلو، خاصة أن الأتراك تقليديًا “يتعاملون مع العراق وكأنه الفناء الخلفي لتركيا”، والمسألة أيضًا، تحت حجة أمن قومي مائي ونفطي خصوصًا أن تركيا بحاجة إلى تدفق النفط العراقي. وثمة خطة استعمارية معلنة بضم العديد من المحافظات العراقية إلى تركيا بحجة الوجود الكردي، وهذه السياسة، سيكون كليجدار مشغولًا داخليًا بما يكفي عن ملء فراغات تغييرها، بسبب ترتيب الأوراق الداخلية للأجندات المشتتة لتحالف المعارضة. أو أن تملأ القوات الأمريكية هذا الفراغ. وعليه فإن الأمر سيّان بالنسبة للحكومة العراقية.
دول الخليج
شهدت العلاقات التركية الخليجية عصرًا ذهبيًا خلال العقد الأول من حكم أردوغان، حيث أصبحت تركيا أول دولة من خارج مجلس التعاون الخليجي يتم تعيينها شريكًا استراتيجيًا لمجلس التعاون الخليجي. ومع اندلاع انتفاضات الربيع العربي في عام 2011، أصبحت السياسة الخارجية التركية أكثر تعقيدًا مع تغير التوازنات في الشرق الأوسط، إذ دعمت الحراكات الثورية في مصر وليبيا وسوريا، واصطدمت من خلالها مع دول خليجية أخرى. دعمت قطر وتركيا الانتفاضات، في حين دعمت المملكة العربية الحكومات خوفًا من أن يصل إليها الدور، فيما عدا سوريا التي جاءت أزمتها بعد فترة من الهدوء في المنطقة. أما عن تنافس تركيا والإمارات على النفوذ في هذه الدول، فقد عمل الاثنان على التدخل المباشر، وتمّ تقسيم الساحات، وشهدت ليبيا أكبر مجال تنافسي بينهما. حيث كلفت تركيا نفسها اتهام الامارات بـ “ارتكاب أعمال ضارة في ليبيا” وقال وزير الخارجية التركي إن “أنقرة ستحاسب أبو ظبي”. إلى أن زار ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد أنقرة عام 2021، والتقى أردوغان، وذلك بعد العزلة التي فرضتها الولايات المتحدة على الإمارات منذ وصول بايدن إلى السلطة، بهدف كبح جماح طموحاتها السياسية. اللافت أن كلا الدولتين كانتا تعملان داخل الدول تحت العباءة الأمريكية، وخرجتا بسبب “طموحاتهما السياسية”.
إلى ذلك أثار الصدع الخليجي الذي بدأ عندما قررت السعودية والإمارات والبحرين ومصر مقاطعة قطر، أثار ذلك عداءً علنيًا بين تركيا وأغلب دول التعاون الخليجي، استمر حتى وصلوا إلى تقارب في عام 2022، وتعتبر هذه الفترة التي تسبق الانتخابات التركية، هي فترة المصالحات والتهدئة في علاقات الدول الإقليمية في الشرق الأوسط، إذ لم تعد الدول راغبة في تحمّل تكاليف السياسات العدوانية، لذلك إذا بقي أردوغان في السلطة، فمن المرجح أن تزيد تركيا من تعاونها الاقتصادي، ولا سيما في صناعة الدفاع مع دول الخليج. وقد عمقت قطر والكويت تعاونهما الأمني مع تركيا في السنوات الأخيرة. وبعد المصالحة الإماراتية التركية، وسعت أبو ظبي بسرعة علاقاتها الأمنية مع أنقرة من خلال شراء طائرات تركية بدون طيار. وقد يمتد التعاون الأمني بين تركيا والخليج إلى المملكة العربية السعودية، التي تعمل على تنويع شراكاتها الأمنية. في ديسمبر كانون الثاني 2022، ترأس مساعد وزير الدفاع السعودي وفدًا إلى تركيا وأجرى محادثات مع كبار المسؤولين الأتراك حول التعاون الدفاعي.
على الرغم من أن الرياض وأبو ظبي بدأتا عملية التطبيع مع حكومة أردوغان، إلا أنهما بقيتا على الحياد خلال الحملة الانتخابية بعكس قطر. خلال حملته الانتخابية، انتقد كليجدار أوغلو مرارًا علاقة حكومة أردوغان الوثيقة مع قطر، وأشار إلى أنه سيخفض مستوى العلاقات مع الدوحة. لكن من المتوقّع أن تستمر علاقات تركيا مع الإمارات والمملكة العربية السعودية على مسارها الإيجابي الحالي، حيث سيحتاج كليجدار لاستثمارات قطر بشكل خاص والدول الخليجية بشكل عام. وعليه فإن الأمر سيان بالنسبة للدول الخليجية.
خلاصة
بعد 20 عامًا من سياسة خارجية تدرّج بها أردوغان وتفاعلت مع نمطها الدول الإقليمية، بالطبع سيشكّل أي تحوّل جذري تحديًا أما الدولة التركية نفسها، وأمام الدول الأخرى على حدّ سواء، ولكن على الرغم من أنّ كليجدار قد أعلن عن سياسة خارجية معاكسة تمامًا لأردوغان، إلا أن الواقعية السياسية والتطورات الإقليمية قد تمنع حدوث تحولات جذرية. بالإضافة إلى توقعات عدم قدرة كليجدار على قيادة هكذا تحولات، وسيكون صعبًا ملأ الفراغات التي ستُكلّف تركيا بسبب الانسحاب من سياسات أردوغان التي تراكمت على مدى السنوات الماضية، وذلك بسبب انشغاله بتوحيد أجندات ائتلاف حكومته في حال فوزه، وهو ما بات يستبعده المراقبون بعد نتائج الجولة الأولى.