أيّار 1948 ـ أيّار 2000.. جدليّة النكبة والمقاومة
صحيفة البناء اللبنانية ـ
معن بشور:
لم تكن السنوات الستّ والستون التي عاشها الكيان الصهيوني منذ قيامه، ونيله الاعتراف السريع من الدول الكبرى، كافية لكي ينجح هذا الكيان في إقناع مواطنيه بأنه كيان راسخ ثابت قادر على البقاء مقبولاً من محيطه، فالشباب «الإسرائيلي» يفكر في الهجرة المضادّة بنسب عالية، و»المتديّنون» يتهرّبون من الخدمة الإلزامية، والمتطرّفون يقودون الدولة والمجتمع في تأكيد لمقولة مشهورة في علم النفس بأن «انعدام التوازن النفسي والعقلي هو أقصر الطرق الى التطرّف».
لم تكن هذه السنوات «الإسرائيلية» الست والستون كافية لإقناع العالم الاستعماري بأن هذا الكيان الذي احتضنه ورعاه، بعدما أفتى بقيامه وقدّم إليه كل أنواع الدعم، نجح في أن يكون قاعدة متقدمة ناجحة لحماية مصالحه، فإذا بـ«الحارس» المفترض يحتاج الى حراسة، واذا بـ«السند» الاستراتيجي للمشروع الاستعماري الغربي بنسختيه الأنكلو فرنسية، والأنكلو أميركية، يتحوّل الى عبء استراتيجي على مصالح هذا الغرب، كما اعترف بذلك أكبر جنرالات البنتاغون الأميركيّ في شهاداتهم أمام لجان الكونغرس قبل أشهر.
لم تكن تلك السنوات كلّها كافية، بكل ما رافقها من حروب واعتداءات، ومن اتفاقات وتسويات، من حصار ومستوطنات، من جدار عنصري وتهويد للمقدسات، من اعتقالات واغتيالات، من صراعات وانقسامات، لكي يرفع الشعب الفلسطيني، ومعه أبناء أمته الأعلام البيضاء، معلناً الإذعان لمشيئة الأعداء
وداعميهم، بل واصل الفلسطينيون ومعهم أبناء الأمة وأحرار العالم الكفاح بمستوياته كلّها، والمقاومة بمختلف أشكالها، والانتفاضات على أنواعها، وبدا للعالم كلّه كأن شعب فلسطين في واد والمفاوضات والتسويات في واد آخر…
بفضل نجاح الكفاح والمقاومة والانتفاضة أخذت الأقنعة تنهار الواحد تلو الآخر عن وجه هذا الكيان، فـ»واحة» الديمقراطية في صحراء الاستبداد العربي تحوّلت الى أكبر معسكر اعتقال وتعذيب لشعب بأسره، وإذا بمن يستدر عطف العالم بكونه «ضحية» للنازية ومحارقها، يغذّي وجوده بمحارق يرتكبها باستمرار ضد الفلسطينيين وأشقائهم، محرقة تلو الأخرى، ومجزرة تلو الآخرى، وإذا بالتحالف السري القديم بين الصهيونية والنازية ينكشف بوضوح في أوكرانيا حيث يتباهى الصهاينة بدورهم في الانقلاب الذي قاده النازيون الجدد في كييف…
بفضل روح الكفاح والمقاومة والانتفاضة، بدأ المخدوعون بدعاوى الحركة الصهيونية في أنحاء العالم، لا سيّما من فئات واسعة من الغرب الأوروبي والأميركي، يكتشفون حقيقة أنّ هذا الكيان الذي أنشئ يوماً بقرار دولي أصبح الكيان الأكثر انتهاكاً للمواثيق والقرارات الدولية على مدى سنوات عمره، وأن هذا الكيان الذي قدّم نفسه نقيضاً للعنصرية يقدم أخطر أشكال التمييز العنصري وصولاً الى مطالبته باعتراف الفلسطينيين به كدولة يهودية.
بفضل روح الكفاح والمقاومة والانتفاضة بدأت قدرات هذا الكيان العسكرية تهتزّ، وهيمنته الاستراتيجية تتراجع، ونفوذه السياسي يتآكل، وعاد البحث الجدي والعميق في خلايا مجتمعه ومؤتمراته الأمنية في مصير الكيان نفسه وقدرته على الصمود بعدما مرّت به فترة، خاصة بعد حزيران 1967، كان يعربد فيها في كلّ سماء عربية، وفوق كل أرض عربية، وقبالة كل شاطئ عربي، حتى سألنا يوماً «هل بات البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسرائيلية»؟!
وبدلاً من أن نسمع تهديدات كان يطلقها العدو تطال الإقليم كلّه، وتسعى إلى جرّ حلفائها الأقربين الى حرب ضد إيران في العقد الثاني من هذا القرن، كما نجحت في استدراجهم الى حرب ضد العراق في العقد الأول من القرن الحالي، بدأنا نسمع تحذيرات «إسرائيلية» خافتة تنبه الى أخطار اختراق رجال المقاومة لجبتهي الشمال مع لبنان وسورية، والجنوب مع قطاع غزة، والى خطر انطلاق انتفاضة ثالثة في القدس والضفة. وبدأت دوريات العدو تبحث عن انفاق يقيمها المقاومون على طول الحدود في الشمال والجنوب، يمكن أن تحمل يوماً أعداداً من المقاومين الأشدّاء الى داخل المستعمرات الصهيونية.
بدت فلسطين والأمة والإقليم برمته أمام معادلة جديدة : كيان مأزوم محكوم بالانكفاء والتراجع، ومقاومة متنامية مؤهلة للنصر والتحرير. وقامت هذه المعادلة بفعل منعطف خطير شهدته المنطقة في 25 أيار/ مايو 2000 إذ أمكن القول إن ما بعد هذا اليوم هو غير ما قبله، وأدرك كثر أن خيار المقاومة وسلاحها ونهجها وثقافتها هو الخيار الأقدر والأفعل على تحويل الهزائم الى انتصارات، وأيام النكبة الى مواسم للتحرير.
بعد 25 أيار 2000 قامت الانتفاضة الفلسطينية الثانية وما زالت مستمرة بشكل أو بآخر، فاندحر الاحتلال عن غزة، وعجز متطرّفوه عن اقتحام الاقصى وتدنيسه مثل سائر المقدسات المسيحية والإسلامية، وتحوّل جدار الفصل العنصري الى لوحة صمود يجتمع حولها فلسطينيون ومتضامنون أجانب ليتلوا فعل إدانة الكيان الإرهابي، وتحوّل ألوف أسرى الحرية في سجون الاحتلال الى عناوين لحكايات تسمعها الشعوب عن «الضحية» التي باتت جلاداً، وتنكشف معهم ازدواجية المعايير لدى مؤسسات المجتمع الدولي والكثير من منظمات حقوق الإنسان.
بل أصبحت متضامنة أميركية شهيدة مشهورة مثل راشيل كوري، رمزاً لهذا التحول الشعبي الدولي المتعاظم ضد الممارسات الصهيونية، وبتنا نسمع مسؤولاً أميركياً كبيراً مثل جون كيري يلوّح بأخطار المقاطعة إذا استمر «التعنت» الصهيوني، كما نسمع أحد دهاقنة الصهاينة، شمعون بيريز، يتحدث قبل أيام عن تعطيل نتنياهو لفرصة عقد تسوية تاريخية مع الفلسطينيين وهي فرصة قال آخرون إن صهيونياً بارزاً آخر مثل أسحاق رابين دفع حياته بسببها وبسبب الوديعة المشهورة باسمه.
بعد 25 أيار 2000، سقطت جدران الخوف من أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، إذ كيف يخاف شعب ينتمي الى أمة أنجبت مقاومات بحجم مقاومة لبنان وفلسطين والعراق، بل أنجبت مقاومة جمّدت اندفاع المشروع الصهيو- أطلسي على جبروته في العراق، وهزمت المشروع الصهيو أميركي بكل غطرسته في لبنان وفلسطين، وبدأت مع شعب سورية وجيشها وقيادتها برسم ملامح معادلة إقليمية كونية على الأرض السورية….
قد يقول قائل : من أين أتيت بهذا التفاؤل كلّه وما حولنا من قتل ودمار واحتراب وانقسام وعصبيات وغرائز يشي كلّه بعكس ذلك…
الجواب بسيط: ألم تخرج من رحم أبشع الحروب اللبنانية عام 1982 واحدة من أعظم مقاومات العصر فهزمت المحتل وصدّت العدوان وأقامت توازناً للردع مع «القوة التي لا تقهر»، وفتحت الأبواب واسعة لتحرير فلسطين التي أضاعها يوماً تواطؤ النظام الرسمي العربي مع المشروع الاستعماري الغربي. ثم ألا تقرأون جيداً ما يجري حولكم من تحولات.
بين 15 أيار 1948 و25 أيار 2000، نقرأ جدلية النكبة والمقاومة، جدلية الهزيمة والانتصار، جدلية الاحتلال والتحرير، جدلية الانقسام والوحدة.
بين 15 أيار 1948 و25 أيار 2000، ندرك جيداً أننا لن نعود الى فلسطين كي تعود فلسطين إلينا مخترقة حواجز إقامتها حدود وسدود، ومساومات وتسويات ، وحروب وانقسامات، عصبيات وغرائز، أنظمة وسجون.