أين دور واشنطن في أحداث كازاخستان؟
موقع قناة الميادين-
شارل أبي نادر:
لا يمكن إغفال الاشتباك الاستراتيجي بين روسيا وحلف الناتو في شرقي أوروبا والبحر الأسود عن ارتباطه بمحاولة الالتفاف على روسيا من حدود كازاخستان.
صحيح أن المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، سارعت إلى نفي مسؤولية واشنطن في تدبير أحداث كازاخستان، أو رعايتها، ووصفت هذه الاتهامات بأنها “مجنونة وغير صحيحة مطلقاً”، وذلك على خلفية إشارات وتلميحات روسية واضحة باتهام واشنطن بذلك، وصحيح أن هناك علاقات أكثر من جيدة بين واشنطن والحكومة الكازخستانية، وأهمها العلاقات الاقتصادية القائمة على استثمارات أميركية في قطاعات النفط والغاز بمليارات الدولارات، وصحيح أن واشنطن انسحبت من أفغانستان بصورة كاملة، الأمر الذي يُبعد إمكان إدارة وحداتها الأمنية والعسكرية لعملية مباِشرة، تقوم على إطلاق مجموعات تخريبية أو إرهابية وتوجيهها في دول آسيا الوسطى، وصولاً إلى كازاخستان، لكنْ تبقى كل هذه المعطيات غير كافية بتاتاً للقول إن لا مسؤولية لواشنطن في إدارة تلك الأحداث المفاجئة في كازاخستان، وذلك نتيجة عدة أسباب، يمكن تحديدها في التالي:
بداية، وبمجرد إلقاء نظرة مركّزة إلى خريطة كازاخستان، الدولة الأكبر بين دول آسيا الوسطى، وكيف تشكّل حدودها – البالغة أكثر من 7000 كلم مع روسيا من الجنوب والجنوب الشرقي – ستاراً فاصلاً بالكامل بين روسيا من جهة، وكل الدول المؤثّرة في تلك المنطقة الاستراتيجية من العالم من جهة أخرى، ونتكلم على الصين ومربّع وسط آسيا الوسطى (طاجيكستان – أوزبكستان – تركمانستان – قرغيزستان)، وامتداداً إلى إيران وباكستان وأفغانستان، والتي تتشارك أيضاً مع كل من روسيا وإيران وأذربيجان وتركمانستان الواجهةَ الساحلية على بحر قزوين، نستطيع أن نستنتج أهمية جغرافية كازاخستان، كدولة محورية ومركزية، تشكّل ممراً إلزامياً لأي مناورة أو محاولة لإدخال مجموعات غريبة لروسيا، أو للحدود الروسية الكازخستانية الطويلة.
من هنا، يمكن أن نذهب في اتجاه التصويب على مسؤولية واشنطن، بخصوص ما صرّح به المسؤولون الكازخيون، ومفاده أن مجموعات إرهابية، قاتلت سابقاً في أفغانستان وفي الشرق الأوسط، كانت أساسية في إدارة أعمال الشغب وتنفيذها والاعتداء على رجال الأمن والمؤسسات الرسمية في أغلبية مدن كازاخستان، وخصوصاً في العاصمة نور سلطان، أو في مدينة جناوزين، مركز صناعة النفط في كازاخستان، أو في مدينة ألما آتا، مقر إقامة الرئيس قاسم زومارت توكاييف. فاستراتيجية واشنطن القائمة على إدارة نقل المجموعات المشبوهة من دولة إلى أخرى، استراتيجية معروفة وثابتة وموثَّقة، ولا ضرورة لذكر ما قامت به ضد العراق وسوريا بالتفصيل، في هذا الإطار، بحيث غطّت وأدارت أكبر عملية نقل لمجموعات إرهابية من أغلبية أصقاع العالم، وكانت (واشنطن) المديرة الفعلية لنشأة تنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا والعراق، وما زالت حتى الآن تدير حركة مَن تبقّى من هذه المجموعات، عبر احتلالها مناطق في العراق وسوريا.
النقطة الأخرى التي تزيد في نسبة مسؤولية واشنطن في نقل هذه المجموعات الإرهابية والتخريبية إلى كازاخستان، أن تحرّك هؤلاء، بعدد ضخم تجاوز عشرين ألف مخرّب أو إرهابي، تمّ من خلال التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي المعروفة، بصورة منظَّمة ومخطَّطة. صحيح أنه جاء بعناوين وشعارات حياتية مطلبية، مثل ارتفاع أسعار الغاز وغيره من المشتقات النفطية، لكنه يشبه، إلى حدّ بعيد، التحركات المشبوهة التي جرت في العراق، في بغداد والبصرة وغيرهما، وفي عدة مدن إيرانية، والتي كانت أيضاً بعناوين مطلبية حياتية، وتخلّلتها أعمال شغب خطيرة ودموية، ووفق الأسلوب نفسه الذي حدث في كازاخستان مؤخّراً، بحيث جرت مهاجمة عناصر الأمن وتمّ انتزاع أسلحتهم بطريقة مدروسة ومنهجية ومتقَنة، وجرى إحراق ما تيسّر لهؤلاء من مراكز حكومية ورسمية عامة، والتي تبيّن أنها كانت برعاية وعناية أميركيتين، ولأهداف معروفة.
ثانياً: لا يمكن إغفال الصراع أو الاشتباك الاستراتيجي، والذي يدور حالياً بين روسيا وحلف الناتو بقيادة واشنطن في شرقي أوروبا وفي البحر الأسود، عن ارتباطه بمحاولة واشنطن الالتفاف على روسيا من الجنوب، أي من حدود كازاخستان، عبر خلق زنّار من الفوضى القاتلة في أراضي الأخيرة، وعند الحدود مباشرة مع روسيا، وذلك بعد الموقف الثابت والقوي لموسكو بمواجهة محاولة الناتو استغلال أوكرانيا نقطةَ اشتباك ملائمةً لتثبيت نفوذ ووجودٍ عسكريَّين ومتقدمَين فيها، بهدف تضييق الخناق على روسيا، الأمر الذي عارضته بقوة الأخيرة، وطرحت في مواجهته مقترحاً من عدة نقاط، لتنفيذ كل الأطراف إجراءات أمنية وعسكرية، تخفّف التوتر، وتشكّل درع حماية لروسيا، وتبعد الخطر الاستراتيجي الغربي عنها. وبرهنت للناتو، الذي كما يبدو تراجع عن مخططاته في أوكرانيا، أنها (موسكو) سوف تذهب حتى النهاية في موضوع حماية سيادتها وإبعاد الخطر عن أراضيها.
ثالثاً: بعد أن استجابت منظمة معاهدة الأمن الجماعي لدعوة الرئيس الكازاخستاني بشأن إرسال قوات حفظ سلام جماعية، وفقاً للمادة الـ4 من المعاهدة، والتي تنص على أن “أي هجوم مسلّح يهدّد أمن أراضي أحد أعضائها وسيادتها واستقرارها، سيُعتبر عملاً عدوانياً ضد جميع الدول الأعضاء”، وبالتالي تمت مساعدة كازاخستان على احتواء الوضع وإنهاء التوتر وإبعاد الخطر الإرهابي، جاء تصريح البيت الأبيض المشبوه، ومفاده أنه “يراقب عن كثب” إرسال منظمة معاهدة الأمن الجماعي قوات تابعة لها لحفظ السلام في كازاخستان، ولديه “تساؤلات بشأن شرعية طلب هذه القوات بقيادة روسية”، وليزيد في ذلك في إشكالية الاشتباك بين موسكو وواشنطن، وليؤكّد حساسية الأخيرة وعدم رضاها عن إنهاء التوتر في كازاخستان، من خلال تشكيكها في شرعية طلب قوات الأمن الجماعي، كأنها لم تكن راضية عن الإجراءات السريعة والتي أنقذت الوضع في كازاخستان من التدحرج نحو المجهول، وكانت كمن ينتظر انفلاش الوضع وتدهوره إلى مستوى خطير، يصبح مؤثراً في الأمن القومي الروسي من خلال ارتباطه، بصورة كبيرة، بالأمن في كازاخستان.
وفي النهاية، برهنت روسيا، من خلال سرعتها اللافتة في إرسال وحدات أمنية إلى كازاخستان (السرعة في انتقالها تؤشّر على أنها كانت جاهزة لتنفيذ أي عمل أمني خارج الحدود)، ونجاح الأخيرة في احتواء الوضع على نحو واضح، بعد تصريحات الرئيس الكازاخستاني بشأن ذلك، أنها كانت تضع في حسبانها ما يمكن أن تتعرّض له أي دولة مجاورة لها أو مؤثرة فيها، تماماً كما حدث في كازاخستان، وأن قرار إنشاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي، والتي تضم كلاً من روسيا وأرمينيا وروسيا البيضاء وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزستان، والتي تأسست على خلفية استباقية لما يمكن أن يهدّد تلك الدول، وخصوصاً روسيا، المستهدَفة الأولى من الغرب، كان قراراً استراتيجياً، ويحمل رؤيا بعيدة وعميقة، بشأن ما يمكن أن تتعرّض له روسيا من تهديدات، مباشِرة أو غير مباشرة.
أخيراً، هل تقف روسيا موقف المتفرّج، أم تذهب، قبل فوات الأوان، وبهدف تحقيق حماية استباقية، في اتجاه قرارات استثنائية، من أجل إعادة توسيع نفوذها وتفعيله في كل من أوكرانيا وكازاخستان؟