أوكرانيا المحايدة لا تكفي
موقع قناة الميادين-
عماد الحطبة:
الاستنتاج البسيط الذي خرجت به روسيا هو أن الأخلاقيات السياسية والإنسانية الغربية ليست سوى أكذوبة ليبرالية مفصلة على مقاس الدول الغربية وحدها.
قبل بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حاولت روسيا تجنّب الحرب بكل إمكانياتها. لم تقتصر المحاولات الروسية على المطالبة بضمانات أمنية تتعلق بمخططات توسيع حلف الناتو باتجاه دول الجوار الروسي، وبشكل خاص أوكرانيا، بل تجاوزتها إلى إبداء درجة عالية من ضبط النفس أمام المحاولات الغربية، وخصوصاً الأميركية، للعبث بأمن روسيا، من خلال دعم الحركات الانفصالية في دول الجوار الروسي، كما حدث في محاولة الانقلاب الفاشلة في كازاخستان، وأزمة اللاجئين المفتعلة على الحدود البيلاروسية – البولندية، وما تبعها من حشود عسكرية للناتو في بولندا وعقوبات اقتصادية على بيلاروسيا.
الحدث الأوكراني ليس معزولاً عن محاولات الناتو المستمرة لحصار روسيا، وهي المحاولات التي عبّرت عن نفسها بنقض التفاهمات التي عُقدت بين الاتحاد السوفياتي وحلف الناتو، ممثلاً بمجموعة 4+2، إبّان الحوار حول وحدة ألمانيا.
في شباط/فبراير 1990، صرح وزير الخارجية الأميركية حينذاك جيمس بيكر: “لن نتوجّه إنشاً واحداً شرقاً”. جاء هذا التصريح في سياق إطلاق تطمينات للقيادة السوفياتية حول الوحدة الألمانية التي طالب بها وزير الخارجية الألمانية هانز ديتريش غينشر.
تظهر وثائق الخارجية البريطانية أنَّ الوزير غينشر قال في أيلول/سبتمبر 1990: “يحتاج الروس إلى تطمينات حول عدم وجود نية لدينا للتوسع شرقاً، وأن انسحاب دولة مثل بولندا من حلف وارسو لن يتبعه انضمامها إلى حلف الناتو”.
كانت بولندا مع تشيكيا والمجر أوّل 3 دول من المعسكر الاشتراكي السابق تنضمّ إلى حلف الناتو، وذلك في العام 1999. استمر الناتو بالتوسع شرقاً، وازداد عدد الدول فيه من 12 دولة إلى 30 دولة. لم تكن الزيادة على حساب الدول الاشتراكية السابقة فحسب، بل شملت في العام 2004 ثلاث دول كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي نفسه، هي لاتفيا ولتوانيا وأستونيا. وهكذا، نقض الغرب جميع التفاهمات والتعهّدات التي قدمها، وتصرف بسياسة الأمر الواقع، وقدّم مصالحه على أيّ تحالفات أو ضمانات مع روسيا.
لم تتوقف المحاولات الأوروبية عند توسيع الناتو فحسب، بل حاولت التلاعب بالأمن الداخلي الروسي من خلال دعم الرئيس الجورجي السابق ساكاشيفلي في اجتياح أوسيتيا الجنوبية في العام 2008، الأمر الذي دفع روسيا إلى التدخل عسكرياً وإعلان استقلال أوسيتيا وأبخازيا.
عاد الغرب لدعم الانقلاب في أوكرانيا في العام 2014، وإيصال أحزاب يمينية فاشية معادية للروس إلى الحكم، وارتكاب مجازر ضد المدنيين في إقليم دونباس. تدخَّلت روسيا عسكرياً مرة أخرى، واستعادت شبه جزيرة القرم، وساعدت سكان دونباس على إعلان جمهوريتي لوغانسك ودونيستك الشعبيتين، لكنَّ موسكو عادت لتوقّع على اتفاقية مينسك التي تضمن وحدة أوكرانيا، مع إعطاء إقليم الدونباس حكماً ذاتياً، وهو الاتفاق الذي لم يجد طريقه للتنفيذ بسبب التعنّت الأوكراني. كما تدخل الغرب بقوة في قضية أليكسي نافالني، المعارض الروسي المتهم بالفساد، وفرضت عقوبات إضافية على موسكو.
ردّ الفعل الروسي المحدود والمنضبط لم يكن كافياً في كلِّ المرات السابقة، واستمرَّ الغرب بمحاولاته للضغط على روسيا وفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية وتصعيد الدعوات الأوكرانية للانضمام إلى حلف الناتو. لم يكن أمام روسيا خيار سوى المبادرة لحماية مصالحها وأمنها الوطني، معتمدة كل الخيارات الممكنة، بما فيها الخيار العسكري.
على مدى شهرين، كان العالم يتحدَّث عن احتمال قيام روسيا بعمل عسكري ضد أوكرانيا. قدمت روسيا مجموعة طلبات اعتبرتها ضمانات لأمنها، قابلها الناتو بالتغاضي عن الطلبات الروسية الرئيسية والتركيز على قضايا هامشية. وقد أعادت تقديم طلب الضمانات الأمنية مرة أخرى، لكن الناتو تجاهلها، ولم يقدّم أي مبادرة تطرح حلاً سياسياً للأزمة، بل استمر بإطلاق التهديد بالعقوبات القصوى ضد روسيا.
في اليوم الأوَّل من العملية الروسية، عقدت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، مؤتمراً صحافياً أطلقت خلاله سلسلة من التصريحات التي كشفت نيات الناتو الحقيقية. قالت: “لدى الناتو رد موحّد وقوي، العقوبات ستحدّ من النمو الاقتصادي لروسيا، وسترفع معدلات التضخّم، وستمنع روسيا من الوصول إلى التقنية التي تساعدها على بناء مستقبلها”.
مباشرة، انهالت العقوبات من كلّ حدب وصوب على روسيا، ووصلت حد مقاطعة الفرق الرياضية الروسية، وتلتها مساعدات بمليارات الدولارات قدمتها دول الناتو لنظام الحكم في أوكرانيا.
وهنا، لا بد للمراقب من أن يستغرب غياب مثل هذه العقوبات في حالات أكثر دموية، كما حدث في الغارات الأميركية على العراق ويوغوسلافيا السابقة، والغارات الإسرائيلية على لبنان، والمجازر التي ترتكبها السعودية والإمارات في اليمن، رغم أنّ هذه الحروب أودت بحياة ملايين الأبرياء والمدنيين، في حين لم تتجاوز الخسائر البشرية في العملية الروسية 500 إنسان في أسوأ التقديرات.
الاستنتاج البسيط الّذي خرجت به روسيا هو أنَّ الأخلاقيات السياسية والإنسانية الغربية ليست سوى أكذوبة ليبرالية مفصّلة على مقاس الدول الغربية وحدها، وهي غير قابلة للاستعمال لمصلحة الشعوب الأخرى. وبالتالي، إن أيّ حلّ ستلجأ إليه روسيا لضمان أمنها لا بدّ من أن يكون حلاً نهائياً لا يخضع للشروط الغربية، ولا يمكن التراجع عنه.
بهذا المنطق، تصبح أهداف العملية العسكرية الروسية مشروعة، وفيها حماية لمستقبل روسيا، وقد تكون بداية مرحلة جديدة تدفع الأمم إلى البحث عن مصالحها وأمنها بعيداً عن القطب الغربي المخادع.
كلّ الدلائل تشير إلى أنَّ روسيا ماضية في عمليتها العسكرية حتى تحقيق أهدافها كاملة، وأنَّها ليست معنية كثيراً بأيِّ مفاوضات، على الأقل في المدى المنظور، وأنَّ الأحداث تجاوزت شعار حياد أوكرانيا، ولو قبلت به حكومة زيلينسكي والغرب.
ردّ الناتو جعل الصورة واضحة كما لم تكن من قبل، فهؤلاء أعداء لروسيا الدولة، وهم ينتظرون الفرص، ويصنعونها أحياناً، للانقضاض عليها، وليس أمام روسيا إلا مواصلة المعركة حتى النهاية وتحقيق النصر.