أوروبا تستغني عن الغاز الروسي إعلاميًا.. وتزيده عمليًا
موقع العهد الإخباري-
د. علي دربج:
في 8 آذار الماضي، أعلنت المفوضية الأوروبية عن خطط لخفض واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي الروسي بمقدار الثلثين بحلول نهاية عام 2022. لم يكتف الاتحاد بذلك بل صعّد من نبرته التهديدية ضد موسكو، كاشفًا أنه يعمل على اقتراح لفرض حظر ملزم على جميع موارد الطاقة الروسية بحلول عام 2027.
على المستوى التحليلي، يشير هذا الخطاب القوي إلى أنه في مواجهة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإن دول الاتحاد ملتزمة تمامًا بالتخلص التدريجي من التعاون في مجال الطاقة مع روسيا فلاديمير بوتين، مع العلم أنه في العام الفائت وحده، وأثناء الأزمة، زودت روسيا مستهلكي الاتحاد الأوروبي بـ 155 مليار متر مكعب من الغاز.
لكن المعطيات العملية تظهر شيئًا مختلفا تمامًا. ولمزيد من المصداقية فلنلجأ الى لغة الأرقام.
في الوقت الحالي، تتزايد تدفقات الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي، ولا تنخفض. فاعتبارًا من منتصف آذار/ مارس الماضي ارتفعت إمدادات غازبروم إلى أوروبا، حتى بعد بدء العملية العسكرية ضد أوكرانيا، بشكل مطرد على أساس أسبوعي، حيث نمت بنحو 15 في المائة. والكلام لـ Bruegel (هو مركز أبحاث أوروبي متخصص في الاقتصاد).
ورغم أن بعض دول الاتحاد الأوروبي على خط المواجهة تدعو إلى قطع العلاقات مع الموردين الروس (بولندا، سلوفاكيا، ليتوانيا)، هناك أيضًا معارضون عنيدون للاقتراح (ألمانيا، المجر، هولندا). ونظرًا لأن عقوبات الاتحاد الأوروبي تتطلب الإجماع، فإن هذا الاختلاف في السياسة داخل أوروبا يعرقل فعليًا أي عمل إضافي بشأن قيود استيراد الطاقة.
ماذا عن السياسات الأحادية لكل دولة؟
يعود هذا الوضع الحالي إلى حقيقة أن كل دولة أوروبية تتصرف على أساس ظروفها ومصالحها الخاصة سواء من حيث الاعتماد على الإمدادات الروسية، أو على صعيد التنويع وكذلك التصورات الاجتماعية والسياسية الوطنية لمستوى التهديد الروسي. يمكن ملاحظة أحد الأمثلة الصارخة بشكل خاص على هذه الاختلافات في المقاربات المختلفة لاثنين من الجيران المباشرين لموسكو في الاتحاد الأوروبي وهما: بولندا وألمانيا.
بينما عمل البولنديون لسنوات لتعزيز أمنهم من إمدادات النفط والغاز الطبيعي، اعتمد الألمان تقليديًا وبشكل متزايد على روسيا، وليس لديهم حاليًا بديل فوري عن واردات الغاز، والنفط الخام أو الفحم من الشرق.
صحيح أن الحكومة الألمانية تعتزم خفض اعتمادها على شركة غازبروم من خلال تسريع تطوير مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، من خلال دعم تحقيق محطتين أو ثلاث محطات جديدة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال (LNG) في أقرب وقت ممكن، غير أن كلا الخطوتين المذكورتين أعلاه سوف تحتاجان إلى عدة سنوات لتحقق النتائج المرجوة.
هل يمكن لأوروبا الاستغناء عن الروسي فعلًا؟
يعترف الجميع في أوروبا، أن التخلص التدريجي من إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى الاتحاد الأوروبي سيكون صعبًا بشكل خاص بسبب وضع السوق الحالي. إذ ان مستويات التخزين الأوروبية منخفضة للغاية (حتى 8 آذار، كان مستوى تعبئة التخزين في جميع أنحاء أوروبا أقل بقليل من 30 بالمائة) بحسب الموقع الرسمي للمفوضية الاوروبية.
زد على ذلك أن الأسعار الفورية للغاز في كل من أوروبا وآسيا، التي ارتفعت بشكل غير مسبوق، دفعت المفوضية الأوروبية وكذلك حكومات الاتحاد الأوروبي الفردية (مثل ألمانيا ولاتفيا)، الى العمل حاليا على وضع لوائح من شأنها أن تخلق التزامًا على شبكات الغاز الوطنية بإعادة بناء مخزوناتها بحلول موسم التدفئة المقبل، بدءا من 1 تشرين الأول المقبل.
وحتى إذا كان هذا الحل صحيحًا بلا شك، فإنه سيؤدي بشكل فعال إلى منافسة أكثر صرامة بين الشركات الأوروبية (والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي نفسها) حيث تكافح لتأمين شحنات غاز طبيعي مسال إضافية، بما في ذلك استبدال الكميات التي كانت ستطلبها عادةً من روسيا. وعليه، من الناحية الواقعية، قد يكون هذا الوضع الذي يلوح في الأفق، سببًا رئيسيًا وراء محاولة بعض دول الاتحاد الأوروبي استيراد أكبر قدر ممكن من الغاز الروسي هذا الموسم.
من الأمثلة الواضحة على هذه الظاهرة النمسا: اعتبارًا من 18 آذار الماضي، انخفض مستوى تخزين الغاز هناك إلى 13.11 في المائة، حيث يستورد هذ البلد تقليديًا ما يصل إلى 80 في المائة من غازه الطبيعي من روسيا.
هل يمكن أن تكون أمريكا بديلًا لروسيا؟
في محاولة لتخفيف مثل هذه الاختناقات في المشتريات وتيسير انتقال أوروبا بعيدًا عن الإمدادات الروسية، أبرم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اتفاقية في 25 آذار الفائت، لزيادة شحنات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية إلى أوروبا بمقدار 15 مليار متر مكعب قبل نهاية هذا العام، ليصبح الرقم الاجمالي حوالي 37 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال الأمريكي. ومن المتوقع حدوث زيادات إضافية تصل إلى 50 مليار متر مكعب، في السنوات التي تلي ذلك. ولكن لجعل هذا الخيار ممكنًا، ستحتاج أوروبا إلى بناء محطات جديدة للغاز الطبيعي المسال وخطوط الأنابيب الخاصة بها، وتوسيعها بوتيرة أسرع مما هو مخطط له حاليًا.
في المحصلة فإن انسحاب الاتحاد الأوروبي من إمدادات الغاز الروسية لن يحدث بين عشية وضحاها، لكنه ممكن نظريًا في غضون سنوات قليلة. ومع ذلك، حتى إذا تمت صياغة سياسة مشتركة الآن في بروكسل، فإن عملية الاستبدال الفعلي للغاز الروسي ستختلف في كل دولة عضو وستخضع للعديد من القيود المحددة أو المشتركة.
ستشمل هذه القيود، على سبيل المثال، العوامل المرتبطة بسلاسل التوريد (أيضًا فيما يتعلق بمشاريع الطاقة المتجددة التي تهدف إلى تقليل استهلاك الغاز)، وتوافر وحدات تخزين وإعادة تحويل الغاز إلى غاز عائم (FSRU) في السوق، والاستقرار السياسي في كل من دول أوروبا ودول أخرى.
والأهم، أن الدول التي يمكن أن تزود الاتحاد الأوروبي بغاز إضافي غير روسي، بعيدة جغرافيًا نسبيًا عن أوروبا، (مثل إفريقيا أو الشرق الأوسط أو جنوب القوقاز وآسيا الوسطى)، وبالتالي هذا يزيد التكاليف ويجبر أوروبا على دفع مبالغ مضاعفة. وبناء على ذلك من المبكر جدًا الحديث بعد عن نتائج خطوة الاستغناء عن روسيا.