أوركسترا طهران.. سحر الموسيقى الإيرانية
صحيفة السفير اللبنانية ـ
صفوان حيدر:
في افتتاح أمسية أوركسترا طهران السيمفونية مساء أول من أمس السبت على مسرح قصر الأونيسكو، امتلأت الصالة بالجمهور الآتي ليستمع إلى الأوركسترا الحاملة تراثاً موسيقياً عريقاً وكبيراً (52 عازفاً) و(26 منشداً كورالياً) ومغنيين أوبراليين يتمتعان بقدرات صوتية مميزة ولافتة. واختتمت الأمسية بالمغناة السيمفونية رجال الله (تأليف جورج حرّو) الذي كرّمه وزير الثقافة اللبناني غابي ليون بدرع تقديرية وبدرع أخرى لمايسترو الأوركسترا نادر مرتضى بور أستادي. إنه مايسترو محترف ومتمكن وقدير استطاع أن يرفع مستوى أوركسترا طهران السيمفونية إلى مصاف أبرز وأشهر الفيلهارمونيات الغربية، خصوصاً في المعزوفات التي كشفت لنا عن هوية الموسيقى الإيرانية، وسحرها الإبداعي وفرادة إيقاعاتها اللحنية التي تعود إلى تاريخ عمره آلاف السنين…
بداية، عزفت الفرقة معزوفة راقصة بعنوان «نقطة الدائرة»، بدت فيها الموسيقى كالأمواج الهادرة التي تعلو وتهدأ في أجواء إيقاعية حماسية ـ رومانسية. إنها أناشيد لا تخلو من الرقص المحمل بقدرة تصويرية وتخيلية عالية وضع ألحانها الملحن سنجري. ثم عزفت الفرقة معزوفة تراب المحبة (تأليف علي أكبر قرباني) بمرافقة غناء الصولو محمد رضا صفي، وهي أبيات تمجيدية للأرض وللوطن، جاء إليها صوت صفي حنوناً ودفاقاً ومتصاعداً في وتائره الصوتية الأوبرالية المحكمة. إنه صوت رخيم ومرتاح ولكنه مشدود ومرن في آن. يتصرف بطبقات صوته بدقة وباتزان. ساعده في الأداء مضمون الأبيات الشعري: «يا تراباً قانونه المحبة ومرآته الإيمان. يا إيران، في أحضانك تنبع ورود الزنبق، وفي السَّحَر تخرج من عيونكِ أوراق الغار». كذلك غنى لنا صفي «قطف الثمار» (تأليف توكلي) وهي أنشودة بدأت موسيقاها هادئة متمايلة، لتثبت لنا أن اللغة ليست عائقاً للتمتع بالألحان وبالصوت الغنائي الذي يدخل القلوب والعواطف ويؤجج المشاعر والأحاسيس ضمن إيقاعات حالمة وهازجة ولكنها فرحة راقصة.
تميزت المعزوفات والأغاني الإيرانية بحنانها وأشواقها وابتهالاتها العشقية ـ التصوفية. وامتزجت النبرات والوتريات الجماعية بالنبرة والوتر الفردي. فبدا الصولو سواء محمد صفي أو أميد حجت قادرين على قيادة الفرقة السيمفونية، ولم تعد الفرقة السيمفونية هي التي تقود المغني كما هو سائد في الأوبراليات الأوروبية. المفاجأة الأدائية الموسيقية في تلك الأمسية الإيرانية بامتياز، كانت أداء «إيغمونت» بيتهوفن الألماني، الذي جاء متقناً ودرامياً حاداً ومفعماً بالقوة التعبيرية الهادرة وبالفوران العاطفي وبالفخامة العزفية، ما بين التجاذب الرائع بين الفلوت والكمان الفردي والجماعي، باتجاه التسارعات الفلهارمونية المتناغمة بتصادمها المشدود. أثبت المايسترو أستادي ان أوركسترا طهران قادرة على أن تنافس الفرقة السيمفونية الفلهارمونية البرلينية في قدرتها على تمثل وإحياء موسيقى بيتهوفن، سواء على مستوى التناسق المنضبط بين الأداء العزفي الفردي والجماعي أم على مستوى المهارة العزفية. كذلك جاء التبادل المتناغم بين عازفة الكمان الإيرانية وعازف الكمان الإيراني في كونشرتو جون سباستيان باخ ناجحاً ومميزاً وملهماً للمخيلة الاستماعية. كذلك عزفت الفرقة وبإتقان تجديدي في التوزيع أغنية يا حرية للأخوين رحباني. وقد نالت قسطها من التصفيق الحماسي للمحتشدين المستمعين. ختاما، انتشى جمهور الأونيسكو المكتظ بمغناة «رجال الله» الحافلة بالفخامة العزفية وبكبرياء الكلمات، حيث تناغم الغناء الجماعي الكورالي بالموسيقى السيمفونية الهادرة. وهي مغناة حماسية تمجد «رجال الله» الذين ليسوا من مساكين المتدينين بل هم المجاهدون الشهداء، سواء في سبيل الارتقاء بالعالم الداخلي للنفس المؤمنة أم في سبيل الدفاع عن الوطن وتحريره من أغلال الاحتلال والعدوان، وصولاً إلى التمجيد الصوفي لعلاقة الإنسان بالخالق وعلاقة الخالق بالإنسان.