#أوباما والحيرة السورية
ناصر قنديل:
– في حديث لكاتبة تاريخ رؤساء أميركا دوريس غودوين نشرته أمس، مجلة «فانيتي فير» تناول الرئيس الأميركي باراك أوباما سيرته الرئاسية وهو على أبواب مغادرة البيت الأبيض، مقدّماً مقارنات شخصية بينه وبين فهمه وقراءته لسيرة رؤساء يصنّفهم بين العظماء الذين تركوا بصمة لا تُمحى في تاريخ أميركا، وشكلوا مصدر إلهام له في تجربتيه السياسية والرئاسية، وخصوصاً الرئيس ابراهام لنكولن، قدّم أوباما محاولة تفسير لسيرته الذاتية كشاب متحدّر من زنوج أميركا الذين يخوضون تحدّي وطموح إثبات الذات والقدرة على تقديم جديد ولافت، يؤكد مقدراتهم القيادية في حياة البلد الذي عانوا مرارة الحصول على حق الاندماج في بيئته ومؤسساته، وبدا أوباما محاولاً التواضع في تقديم نفسه وإنجازاته، مكتفياً بالقول إنه يفخر بكونه جنّب أميركا الوقوع في مطبات كان سواه ليقع فيها.
– أمام السؤال عن المسائل المحيّرة التي يقول الرئيس الذي تنتهي ولايته قريباً، إنه ربما كان بالمستطاع التصرف بطريقة مختلفة، وما هي، يقول أوباما لقد أحسنت الأداء في مختلف القضايا التي تعاملت معها داخلياً وخارجياً، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، لكن تبقى مسألة سورية فأقف عاجزاً عن الجواب على سؤال: هل كان بيدنا أن نفعل شيئاً لم نفعله، وكان لينهي هذه المأساة، ويستدرك، طبعاً لا أقصد فعل ما يدعوني كثيرون لفعله وما يأخذه عليّ كثيرون لعدم فعله، فهنا أنا واثق أنه كان عليّ فعل ما فعلته بعدم الإصغاء للنصائح المتهوّرة أو الإصغاء لموجات الغضب، فلا تسليح المعارضة ولا المضيّ بالضربة العسكرية تحت شعار استخدام السلاح الكيميائي كانا سيحدثان فرقاً. وأحياناً أقول، يتابع أوباما، أقصد بما لم نفعله أفكاراً لم تخطر ببالنا، وأتساءل هل لو كان الأمر معروضاً على لنكولن وروزفلت لاتخذ خيارات لم ترد ببالي؟
– حيرة أوباما السورية التي تتأسّس على التسليم بأنّ التصعيد العسكري ضدّ الدولة السورية ما كان ليجعل وضع أميركا أفضل، حتى لو كان يوحي بكلامه الحرص على وضع أفضل لسورية، وهو يقصد سورية التي يحب الأميركيون رؤيتها، أيّ سورية التي لا تقلق «إسرائيل» والتي يرتاح إليها حلفاء أميركا الآخرون أو يديرون الحكم فيها، فيصير المقصود بالبحث خدمة المصالح والسياسة الأميركيتين وهذا ليس مأخذاً، على رئيس أميركا، بل توضيح لمنهج بحثه، وفتح لباب السؤال، فعلاً ماذا كان بمستطاع أوباما أن يفعل من هذا المنظار، وليس من منظار سورية الأفضل كما نراها نحن، فتلك مهمتنا وليست مهمة الرئيس الأميركي ولا يمكننا توقعها منه؟
– هنا من حق المراقب التساؤل بعيداً عن طلب العبقرية التي يتحدّث عنها أوباما لدى أسلافه ويتواضع بالقول إنه لم يملك مثلها، لماذا يتجاهل الرئيس الأميركي المنتخب عام 2008 التطرق لما ورد من توصيات في تقرير لجنة العراق التي شكّلها الكونغرس مطلع عام 2006 وأصدرت تقريرها وتوصياتها في نهاية ذلك العام وأخذ منها المرشح الرئاسي باراك أوباما الالتزام بالانسحاب من العراق، وإغلاق معتقل غوانتانامو، وهو يعلم أنها من اللجان النادرة التي شكلها الكونغرس برئاسة ممثلي الحزبين إقرار منه بالأزمة الوطنية، لتحمل اسمي رئيسيها جيمس بيكر ولي هاملتون، وربما تكون من الأطر القليلة والنادرة التي تشبه فكر لنكولن الذي يعتبره أوباما ملهماً له، في جمعها للحزبين في الأزمات الوطنية الكبرى، وقد توصلت اللجنة إلى خلاصات ووضعت توصيات لو رسم أوباما سياسته الخارجية وفقاً لها، ربما لما وقعت الحرب في سورية ولا في ليبيا ولا تعرّضت المنطقة لهذا الدمار الشامل.
– لا يستطيع الرئيس الأميركي المنتخب بعد صدور تقرير بيكر هاملتون مباشرة تجاهل حقيقة انّ قراراً بوضع التوصيات على الرفّ قد اتخذ وكان الرئيس شريكاً باتخاذه، رغم ما توفره لغة التقرير والتوصيات وصدورها باسم الحزبين من دعم معنوي وتكريس تاريخي للرئيس الذي يعتمدها منهجاً لسياسته، فاكتفى أوباما بالانسحاب من العراق وإقفال غوانتانامو كوعود من توصيات التقرير، وأهمل الجوهري والأساسي الذي يعود إليه اليوم وتعود إليه السياسة الأميركية بمكابرة وكثير من محاولات الإنكار، ومشاريع العناد أملاً بتعديل هنا أو تغيير هناك، فهل تمّ بالصدفة التوجه لمتابعة زيادة العقوبات على إيران أملاً بإخضاعها في ملفها النووي وسياساتها الإقليمية، وبين يدي الرئيس توصيات موقع عليها من أكثر من سبعين شخصية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي تقول بالاعتراف بإيران دولة نووية وذات نفوذ في ملفات العراق وأفغانستان وأمن الخليج والطاقة. وهل بالصدفة قال الرئيس عام 2010 إنه لن يضغط على «إسرائيل» لقبول تسوية للقضية الفلسطينية أقلّ ما يُقال فيها إنها مسخ ومتواضعة، وهو يتمعّن بقراءة تقرير يقول له لا تتباطأوا في إلزام «إسرائيل» بقبول دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة العام 1967 عاصمتها القدس الشرقية مع حلّ لقضية اللاجئين يستند للقرار الأممي 194، بحق العودة والتعويض. وهل فات الرئيس الذي وقع قرار نصب الدرع الصاروخية على المساحة الأوروبية قبالة روسيا أنّ التقرير المذكور أوصاه بتصحيح مسار التعاون مع روسيا والإقلاع عن لغة التعالي والاستفزاز التي انتهجتها إدارة سلفه جورج بوش؟ وبالنسبة لسورية قال التقرير الاعتراف بها كدولة إقليمية فاعلة وشريك لا غنى عنه في استقرار العراق ولبنان، والدولة المحورية في الصراع العربي الإسرائيلي، فهل تأسّست مقاربته لسورية من وحي هذا الاعتراف؟
– لا يستطيع الرئيس أوباما أن يقنعنا بأنه ليس نادماً، لأنه تجاهل التقرير الذي قرأه واستوحى منه أبرز بند لسياسته الخارجية وهو الانسحاب من العراق بعدما تخلى عن طلب الانسحاب من أفغانستان الذي كان جزءاً من حملته للترشيح قبل رسوّ الخيار عليه، ثم عاد إلى قرار الانسحاب بطلب من الجهة ذاتها التي طلبت منه التخلي عنه من قبل، وهي مؤسسة صناعة القرار والسياسة في أميركا، التي تتموضع بين الجيش والمخابرات، وهي الجهة التي أطاعها بتبني مواقف مائعة من القضية الفلسطينية ليأتي واعظاً في زيارته إلى القاهرة بعد فوزه الرئاسي بلا مشروع، بعدما قبل التخلي عن خطابه الخاص بحلّ القضية الفلسطينية وردع الاستفزازات «الإسرائيلية»، وأخذ المنطقة إلى سلام مؤسّس على قواعد القانون الدولي، وهو ما كان عنواناً أساسياً في سياسات يتطلع إليها أوباما المرشح الرئاسي الرومانسي قبل أن يتحوّل إلى المرشح الواقعي المقبول من مؤسسة القرار.
– الإنصاف يقتضي من اوباما الاعتراف أنه كان ضحية تضليل، ومساومات حكمت وصوله للبيت الأبيض واستدعت منه قبول تنازلات أخلاقية، يكتشف اليوم أنها تسبّبت بالدمار الشامل للبلاد العربية والإسلامية وجلبت المخاطر للعالم، لأنها تجاهلت حقائق كانت واضحة وبائنة، وأصرّت على خوض الاختبارات الخطرة لأنها عاشت حال الإنكار للوقائع التي رسمت عناوينها توصيات بيكر هاملتون، لأنّ تفادي الخيارات الصعبة للتقرير وتوصياته، جاء بوهم القدرة على تغيير الوقائع، وكانت الحرب الناعمة أو الذكية التي قامت على تفجير الكيانات الوطنية في بلاد حوض المتوسط وزعزعة مشروع الدولة فيها، وكانت ذروتها الحرب السورية، التي يعرف أوباما أنه أول من قال إنّ وهم وجود معارضة معتدلة فيها ليس إلا فانتازيا، ويعرف صحة ما قاله نائبه جو بايدن أمام أساتذة وطلاب وخريجي هارفرد عن دور حلفاء واشنطن في جلب الإرهاب وتوطينه ودعمه ليتجذر في سورية ويكون قوة «الثورة» فيها، تمّ تحت العين الأميركية.
– أوباما لم يقنع نفسه كي يقنعنا للمرة الثانية على التوالي في يومين متتاليين، فكما يعلم أنّ العالم كان أكثر أمناً في ظلّ الحرب الباردة يعلم أن لا سبب للحيرة في سورية، فتقرير بيكر هاملتون على طاولته منذ ما قبل دخوله البيت الأبيض، ويكفي أن يتذكر أوباما ويقيس على المقارنة، حال سورية، ما جرى مع الملف النووي الإيراني الذي أدّت سياسة الحصار والعقوبات إلى جعل التفاوض يبدأ في كلّ جولة جديدة من نقاط لم تكن إيران قد بلغتها في الجولة التي سبقت، حتى صارت تخصّب اليورانيوم وعلى درجات مرتفعة، وصار ما تتنازل عنه إيران في التفاهم ليس إلا بعضاً مما أنجزته في مراحل التفاوض وما كان ليتضمّنه أيّ تفاهم لو تمّ توقيعه مع بداية التفاوض، فماذا لو سار أوباما بتوصيات بيكر هاملتون منذ بدء ولايته، وبدأ بإيران وسورية وفلسطين، كثلاثية متكاملة، هل يستطيع تخيّل الشرق الأوسط الذي كان سيشقّ طريق الديمقراطية والحريات بسلاسة وسلام، وشعوبه قبل حكوماته تنظر بعين الرضا للسياسات الأميركية، وهذه النظرة وفقاً لما يعلم الرئيس الأميركي هي قلب المصالح الأميركية وآلة حمايتها.