أمريكا… وخريطة طريق لنهاية العرب ؟!
هل قدر العرب أن يكونوا وقود المتغيرات العالمية منذ قرون وهل هذه المتغيرات هي بشكل أو آخر حنين إلى الاستعمار، ومن الاستعمار نفسه ….؟ لماذا لا يحسنون ـ العرب ـ قراءة ما يجري حولهم وهم في أغلب الأحيان وقوده، ولو أعملوا التفكير قليلاً لكانوا صناعه وقدوته وحولوه إلى مصلحة قومية عليا في هذه الظروف ….
بداية لا بد من الاعتراف بأن الدول العربية في غالبيتها تحتاج إلى عملية إصلاح نظمها السياسية وما يتعلق بمفهوم القانون والمواطن والحريات وتطبيق ذلك، وتحتاج أيضاً إلى الاقتراب أكثر من الثورة المعلوماتية والتكنولوجية مواكبةً لثقافة العصر، وتحتاج في الوقت نفسه إلى الاستقلال والتحرر من التبعية للخارج.
في المنهج التطبيقي في السياسة نراجعُ المرحلةَ منذ بداية حقبة الربيع العربي المزعوم نهاية عام 2010م وما شهدته من شعارات لم ينسجها الشعب من واقع حياته الوطنية، وحراك قواه الاجتماعية، والروحية، والسياسية بل صُممتْ في الدوائر الغربية الأمروصهيوأوروبية، وقدّمت للعرب ليس حباً بالتقدم من أجلهم، ولا خوفاً على مستقبلهم في ظل استبداد السلطة العربية، ولا حماية لحقوقهم الإنسانية، فكل ما حدث كانت إرهاصاته تشير إلى القلق على إسرائيل في جوٍّ عربي ـ ولو كان مليئاً بالاستبداد ـ لكنه كان محمولاً بالتنمية، وعناصر القوة الوطنية، التي إن تهيّأ لها مَن يوظفها في خندق الصراع العربي ـ الصهيوني توظيفاً صحيحاً، فلن يبقى معها المشروع الصهيوني الإحلالي التوسعي العنصري على قيد الحياة.
لذلك لم يبقَ أمام مراكز صنع القرار في الدوائر الغربوصهيونية إلا أن تستخدم احتياطييها الدائمين في الحياة العربية في أقطار سايكس ـ بيكو, ونظم سايكس ـ بيكو فصدرت الأوامر وتغيّرت الأدوار مباشرة، وقدمَ كبشَ الفداء عملاء أميركا في الدول التي صارت ـ بحكم أوضاعها الداخلية ـ تسهل تعميم مقولة الربيع المزعوم. واتضح لكل مواطن عربي أن مهام النضال العربي لم تعد أولوياتها ـ كما كان يعرف ـ في تحرير فلسطين وعدم السماح بتهويدها، وتهويد القدس الشريف، وعودة الحق العربي المغتصب بعد العدوان الصهيوني على العرب في 6/5/1967.
ومن أغرب ما واجه المواطن العربي هو أن ميديا إعلامية دولية ليست مسبوقة في تاريخ العرب تضخ ليلَ نهار حول استبداد النظم العربية بشعبها، وحق هذا الشعب بالحرية، والديمقراطية، وتقرير مصيره، ولم تأتِ هذه الميديا على أيِّ ذِكرٍ لاحتلال إسرائيل لأراضي العرب، ولا كيف يمكن تهويدها، ولا كيف تحاصر غزة لتموت جوعاً، لكأن الاحتلال ليس له أي علاقة بالاستبداد.
والمهمة الملحة أمام عرب أميركا والصهيونيّة فقط هي تدمير أنظمة عربية وصلت إلى نسبة من القوة في الموارد الاقتصادية والبشرية صار يُخشى من استثمارها في الطريق الصحيح. وبعد لعب الأدوار التي رسمت لعرب أميركا في النظام الرسمي برزت الجامعة العربية مؤسسةً قوية بأقوى قوةٍ شهدتها منذ تشكيلها عام 1945، وصارت النبرة الصهيوأميركية حول الاستبداد المرفوض بحق المواطن العربي عند ممثلي نظم التخلف والاستبداد عند العرب هي صوت الحق، وأصبح المواطن العربي لا يرى إلا نموذجاً واحداً يؤدي الدور المرسوم للعرب وما عليه سوى الالتحاق به، وأكبر بلد في هذا النموذج بلد لا يسمح للمرأة بقيادة السيارة، لكنه يدّعي السماح للشعب بقيادة قطار المستقبل.
والتغيير العجيب بالأدوار هو أن كلما كان يختزنه العقل العربي من المحيط إلى الخليج ” الفارسي”حول دول التخلف العربي صار مدعواً لتعزيله من ذاكرته، وتعبئة الذاكرة الجديدة بإسرائيل الصديقة. والممالك، والأمراء الحريصين على السيادة والاستقلال والحرية، ولو كانوا لا يملكون في بلادهم أيّةَ نسبةٍ منها، وهكذا صار الحق باطلاً، والباطل حقاً. والعدو صديقا، والصديق عدواً، والعميل بطلاً، والبطل مجحوداً، والتهويد ممكناً، والعروبة مرفوضة.
ومنذ أن دُعيت القوى الحاكمة بالأوامر الصهيوأمريكية لتركيب الدولة الوطنية الجديدة، اتضح من مصر إلى تونس إلى ليبيا أن الأخونة بالرعاية الصهيوأمريكية والاحتياطي العربي العميل هي البديل عن الدولة الوطنية وجماهيرها المتمسكة بالسيادة والاستقلال فسرعان ما شرع المواطن العربي يقارن بين ما قيل له، وتم التطبيل والتزمير فيه، وما بين الذي يحصل، ويستدعي إزاحة العقل والفهم الصحيح باعتبار أن المواطن العربي في حسابات مراكز القرار الأمروصهيوأوروبي يمكن أن يُساق ـ كما حدث في تاريخٍ ـ إلى مصير مرسوم له من الخارج.
وحتى لا يُعطى هذا المواطن أي فرصة للتفكير النظيف شنوا المعركة الكونيّة على سورية, وشرعوا بتدميرها، ووضعوا نموذجاً ـ على المقلب الآخرـ أمام المواطن العربي حتى يجبر أن يقتنع بمقولتهم (إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون). فالخلاص من الدمار والتهجير كما يحدث في سورية، مقابله الخضوع إلى حكم الإخوان كما تريده دول الحلف الأمروصهيوأوروبي، ومع ذلك حين رأى المواطن العربي أن الشعب الأبي في سورية لم يركع ولو دمروه، وقتلوه، وشردوه، استفاق على حلمه بأمةٍ منتصرة على طريق سوريا المنتصرة فانقلب السحر، وسطعت شمس الحق، وهزم العملاء في مصر، وتونس، وليبيا، واليمن، والعراق، ولبنان وتغيرت الأدوار، وصار مَنْ في إسطنبول لا يملك أن يبقى على ما كان قد تلقنه من أسياده، والمُعادل السياسي الحاسم الذي برز هو وطن منتصر بوطنيين وعروبيين، وليس وطناً لمستتبعين.
إذاً لا شك بأن الولايات المتحدة تعرف حق المعرفة أن الدول العربية تحتاج إلى إصلاحات سياسية وغيرها، ولكن الشيء الأكثر أهمية أنها تعارض هذه الإصلاحات لأنها ستؤدي ـ إذا ما كانت فاعلة وحقيقية ـ إلى الإضرار بالمصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة العربية بأسرها. من جهة أخرى فإن موجة العداء والكره للسياسة الأميركية وللوجود الصهيوني الغاصب في فلسطين تزداد عمقاً واتساعاً يوماً بعد يوم، ولا سيما في أوساط الجماهير العربية، وإن كانت بعض الأنظمة العربية تسير في ركاب السياسة الأميركية للحفاظ على امتيازاتها.
ولهذا عملت الولايات المتحدة ولا تزال باتجاه إجهاض أي عملية إصلاح حقيقية، وذلك من خلال عدة أساليب أهمها: محاولات احتواء أي ثورة أو انتفاضة لتبقى تدور في فلك السياسة الأميركية، بمعنى إدخال تحسينات خارجية أو سطحية عليها مع الإبقاء على البنية التحتية الأساسية للأنظمة الحليفة لها واستبدال بعض الشخصيات بأخرى دون المساس بجوهر النظام، العمل على زرع بذور الفتن الطائفية والمذهبية والإثنية والمناطقية بما يساعد على توسيع شقة الخلاف بين أبناء الشعب الواحد ويؤدي إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار، وقد تتطور الأمور إلى حد الاقتتال بين الطوائف والمذاهب.
وهذا ما يريح الإدارة الأميركية، ويوفر عليها التدخل المباشر في هذه الدولة أو تلك. وتكثيف الضغوط على الدول التي تعارض السياسة الأميركية سواء كانت ضغوطاً سياسية أو اقتصادية، ودعم وتمويل مجموعات محددة لديها مؤهلات واستعدادات للإذعان وللسير وفق اتجاهات السياسة الأميركية، بالتظاهر، بل وبأعمال القتل والتخريب تحت ستار المطالبة بالحرية وبالديمقراطية، وتمدها بالأموال والأسلحة، إلى جانب الدعم الإعلامي لها من خلال بعض المحطات الفضائية المشبوهة التي تلفق الأخبار الكاذبة وتضخم الأحداث بل تختلقها أحياناً من لا شيء.
لقد أقدمت الإدارة الأميركية على اتخاذ إجراءات معينة لاختراق المجتمعات العربية وتفجيرها من الداخل، ومن هذه الإجراءات والأساليب قيامها بتدريب مجموعات من الشباب العرب على يد جمعيات أميركية متخصصة في مجالات التأثير على عقول الأجيال الصاعدة وعلى كيفية التنظيم والتواصل عبر التقنيات الحديثة بمختلف أنواعها، الانترنت، الفيسبوك، التويتر، أجهزة الخليوي المتطورة، وغيرها من مجموعات لا تربط بينها أي أفكار سياسية أو ايديولوجية محددة، ولا تجمعها قيادة موحدة أو أي أطر تنظيمية معينة أو خاصة ودفعتها إلى تبني شعارات الحرية والديمقراطية ثم رفع سقف المطالبة إلى طلب إسقاط الأنظمة دون أن يكون لدى هذه المجموعات أي وضوح في تطلعاتها أو برامجها السياسية والاقتصادية، مع التركيز على هذه المجموعات لتبتعد عن القضايا القومية الكبرى للأمة العربية، وإعطاء الاهتمام في طرح مطالبها للنواحي المعاشية وللبطالة وللتفاوت الاجتماعي.
ويلاحظ من خلال هذا التركيز على تنمية اتجاهات معينة لدى الشباب العربي بحيث ينسلخ عن جلده القومي والعروبي في نهاية المطاف، هذا إذا عدنا قليلاً إلى الوراء نجد أن أميركا اعتمدت في زمن الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفياتي السابق والمعسكر الاشتراكي على استراتيجية دعم عدة منظمات دينية لمواجهة ما كانت تسميه ”الخطر الشيوعي” أو ”المد الأحمر” والمخططات الشيوعية السوفياتية، واستخدمت هذه المنظمات الدينية في العمل لإخراج الاتحاد السوفياتي السابق من أفغانستان، لتقوم لاحقاً باحتلالها تحت ستار مكافحة الإرهاب وملاحقة تنظيم القاعدة، وفي هذه الأيام تستغل الولايات المتحدة المشاعر الطائفية والمذهبية لخلق الفتن هنا وهناك.
وهكذا يمكن القول بأنه لا مصلحة لأميركا في الإصلاح الحقيقي في الدول العربية، وهي تريد إلى جانب إحداث الفتن وتمزيق البلدان العربية أن تقيم ديمقراطيات على المقاس الأميركي أو بما يناسب المصالح الأميركية، وديمقرطيات تقسيمية شكلية على أساس المدن والعشائر والطوائف، وهي في الوقت نفسه تقف ضد أي ديمقراطية حقيقية لدولة عصرية على مستوى الوطن والأمة. وهذا أمر طبيعي أو بديهي، فتاريخ الولايات المتحدة الحافل بمحاربة الأنظمة والدول التقدمية والديمقراطية المناهضة لسياستها لا يسمح لها بأن تتحول بين ليلة وضحاها إلى راعية للديمقراطية الصحيحة ولحقوق الإنسان، وبالتالي فإن المراهنة على إقامة ديمقراطية على الطريقة الأميركية وبالدعم الأميركي هي مراهنة خاسرة، وتؤدي بمن يراهن على ذلك في نهاية المطاف إلى السقوط في مستنقع التبعية والذيلية…
وفي نظري المتواضع، فإن تشكيل أي مجتمع منظم وسليم يتطلب نقل هذا المجتمع من حالتي الفوضى والعشوائية إلى حالة النظام، وفي هذه الحالة من الانتقال، تعد نظرية السلام الديمقراطي هي الحل، ونظرية السلام الديمقراطي تفترض أن كل بلد يمر بلحظات حرجة، تستدعي إحداث تغيير بهذا الشكل أو ذاك ولو أدى ذلك إلى القبول بمرحلة انتقالية، تنقله إلى التوازن الحقيقي، وتبعده عن الفوضى والعشوائية، كما تستطيع تجاوز لحظات حرجة، تستدعي إحداث ما يبعده عن حالة الأزمة.
ومن هذا المنطلق، لابد من الابتعاد عن نمط التفكير التقليدي، القائم على نمط من التفكير مضمونه ليس بالإمكان أبدع ممن كان، أو ما هو مطروح يمثل الحل الوحيد، هذه الطريقة في التفكير تؤدي إلى قتل المبادرات والأفكار الجديدة التي قد تؤدي إلى الخروج مما هو تقليدي في التعامل، إلى ما هو مبتكر من حلول متوافقة، مع قبول الأفكار المطروحة، وهذا المنهج في التفكير، ليس مطلوباً في التعامل مع كل المشكلات، وإنما هو مطلوب في التعامل مع القضايا المعقدة التي تستحق الجهد، وتتطلب المبادرات من قبل صناع القرار لتحديد اللاعبين وأهدافهم وغاياتهم، مع ضبط سلوك كل لاعب، ولو كانت النتيجة أسوأ الأفضل، أو أفضل الأسوأ، أو يكون تبني الحلول الوسط، إذا فقدت القدرة على احتواء اللاعبين.
بقي أن نقول: من المهم ألا يستخف بالحراك الجماهيري الحاصل، وإنما من الواجب التعامل معه وفقاً لكل حالة على حدة، كما يستوجب هذا التعامل الابتعاد عن منطق الماضي، إلى منطق المستقبل، لأن حاضر اليوم يشكل قطيعة بين المنطقين، ويستند إلى أسس حضارية تعلي من شأن العمل الفكري، كما تعلي من شأن المعلومة، وليس الآلة… فقد أكد هذا الحراك أن الوطن العربي ليس استثناء، والادعاءات التي تطرحها بعض النخب العربية، ولا تزال تطرحها في إطار الخصوصية، ليست سوى زيف، لأن الوطن العربي كغيره ليس بمنأى عن التغيير في الأفكار والقيم والسلوك التي تستهدف تحسين نوعية الحياة، لاسيما في مثل هذا التطور الذي يشهده العالم، المتمركز على مجتمع المعلومات، مجتمع ما بعد المجتمع الصناعي، مجتمع ما بعد الحداثة، مجتمع ما بعد الأيديولوجيا.
إن ما يجري في الوطن العربي ليس حالة فريدة في العالم، لأن العالم يعيش عصر التحولات الكبرى، وما يراد للمنطقة العربية بكاملها اليوم كقدر مقدر ليس جديداً، فهل يستطيع الحراك العربي نقل العرب من القدر إلى الخيار؟ ولو هبت العواصف التي كان يقوم عليها المشروع الإسرائيلي حتى وقت قريب، مشروع هدفه تفتيت المنطقة إلى دول مذهبية وطائفية، وإثنية لحماية إسرائيل ككيان ديني، لتكون الأقوى في المنطقة، ومن ثم هل يستطيع التغيير المنشود الانتقال بالأمة العربية من القدر إلى الخيار الذي قرأناه عبر التاريخ لنستقر في قراءته اليوم، عبر السلام الاجتماعي الذي يكون الأكثرية عبر صناديق الاقتراع.
إن الديمقراطية الصحيحة والحقيقية هي التي تنبع من واقع الوطن ومن حاجة الشعب، وتتعارض مع كل أشكال التعصب المذهبي والطائفي والمناطقي والعرقي. فأي ديمقراطية أو حرية لا تبنى على قاعدة وحدة الوطن، ووحدة الشعب، ووحدة الأمة، هي ديمقراطية فاشلة وقاصرة. من جهة أخرى فإن التعددية الحزبية مطلوبة ومقبولة ولكن بشرط أن تلتقي هذه الأحزاب على ثوابت وطنية وقومية راسخة لا يجوز تجاوزها أو القفز من فوقها، وإذا حصل أي خلاف بينها، فيجب أن يكون فقط في الوسائل والبرامج التي توصل إلى تحقيق الأهداف الكبرى.
إن المنطقة العربية اليوم أمام ثلاثة استحقاقات على الأقل تستوجب حصول تغيير فعلي في طريقة التعاطي العربي مع القضايا الأساسية المطروحة في المنطقة وعليها فهناك موجبات التركيز على الإعلام العربي الذي يحقق أهداف الأمة العربية بالتصدي للمشروع الاستيطاني الصهيوني، وإخماد مراكز القوى الإعلامية التي وضعتها الولايات المتحدة الأميركية في مناطق عدة من العالم، وكان الهدف منها القضاء بآليات متعددة على الحس القومي العربي، وسلب الهوية القومية، والتاريخ العربي والإبداع العربي من المحيط إلى الخليج “الفارسي”، وهذا ما استخدمته أميركا عند احتلالها للعراق عام 2003، حيث زادت من مراكزها الإعلامية لتشويه صورة الجندي العربي العراقي في معارك ميدانية مختلفة.
أما الاختيار الثاني الذي لا بد للعرب من العمل به فهو وضع سياسات وطنية وقومية تسهم في وقف المد السياسي الأميركي الصهيوني والغربي في المنطقة العربية والتي استحوذت هذه السياسات على أكثر المنظمات والمنافذ السياسية في الأقطار العربية بحجة مساعدة تلك الأقطار بالحصول على اتفاقات من شأنها تنمية الأطر الاقتصادية والعسكرية، والاجتماعية على ضوء الخريطة السياسية التي أعدتها أوروبا لمد الجسور مع الأقطار العربية في العلم والتكنولوجيا والتسليح، والتدريب مع التركيز على الآلة الإعلامية لاستعمار الشعوب وسلب خيراتها.
ولا بد للخيار الثالث من تحليل واستباقية لمعرفة تأثيره المطلق على المنطقة العربية، فالسلام مع ”إسرائيل” لم يعد موفقاً ولا مهيأً في هذه الظروف نظراً لدور ”إسرائيل” العدواني، وكذبها على العرب، بل تمثيلها بالأطفال والنساء، والشيوخ في مذابح مروعة وجرائم حرب بحق الإنسانية.
وهكذا فإن انتظار الحلول من الخارج لم يعد عملياً عملة قابلة للتداول في النظام العالمي الجديد للعولمة ومشتقاتها الاقتصادية والعسكرية وحتى الثقافية فلو أخذنا حالة الأميركيين الآن نكتشف بسرعة أن المنطقة لم تعد تهمهم إلا انتخابياً، أما عدا ذلك فالأميركان مشغولون كثيراً بقوة روسيا حاملة المفاتيح النووية كما أنهم يركزون أكثر على الأوروبيين خوفاً من أن يشقوا عصا الطاعة على واشنطن ليتجهوا إلى اليابان مثلاً أو حتى إلى كوريا الجنوبية وغيرها من النمور الآسيوية، وما دامت خيرات منطقتنا تحسب في الصناديق الأميركية بشكل أو بآخر، فليس هناك من موجب في نظر الأميركيين لتغيير سياستهم في التعامل مع المنطقة إلا ضمن هذا الاتجاه وليس ذلك فقط بل في التآمر عليها بما يسمى عوامل التغيير في الوطن العربي والتدخل في شؤونها الداخلية خدمة لـ”إسرائيل” والصهيونية العالمية.
لقد كان تركيز الولايات المتحدة الأميركية في حربها المعلنة ضد العرب على الخطاب الإعلامي المبرمج عبر شاشات التلفاز، أو طائرة (الأواكس) أو الإنترنت، أو في الصحف والبيانات الرسمية من لجنة خبراء الإعلام وهي لجنة مؤلفة من عدد من المؤرخين والتربويين، والنفسانيين، والصحفيين، وقادة الجيش (الجنرالات) الكبار المطعمين برجال السياسة والاقتصاد، واجبهم إيصال المعلومة المزورة إلى الإنسان العربي وتشويه صورة المقاتل العربي وعدم فسح المجال له بإدارة عملياته العسكرية، وهذا ما حدث في العراق وليبيا ويحدث في سورية اليوم (أي نهاية دور المهنية العسكرية العربية)، وهكذا لم تجد أميركا مخرجاً بعد فشل إعلامها المسيس وفضح نياتها العدوانية تجاه المنطقة ودائماً من منظور الحفاظ على مصالحها وعلى أمن إسرائيل.
أكاذيب اليوم تشبه أكاذيب الأمس… تلك الأكاذيب وضعت العالم العربي، والإسلام، والعقل العربي أربعمائة سنة في أقفاص التخلف، ومن تجرأ ومدّ عقله إلى خارج القفص، ألقي في أعماق مضيق البوسفور.
في العالم العربي كنا نراهن على إيماننا المطلق بأن الغرب عدو، ونراهن على أن أمريكا هي العدو الأكبر، لأنها وراء أي عدوان إسرائيلي على أمتنا العربية، وعلى وجودنا العربي أرضاً ومقدسات، ووجوداً ثقافياً وحضارياً، وكنا نراهن على أن العدو المباشر للعرب والمسلمين هو إسرائيل، والصهيونية العالمية، وأن أي جهة تتعامل مع هذا العدو المباشر أو تدعمه، أو تعمل على تمريره في المحافل الدولية هي جهة معادية، وأن أي قول تقوله جهة إعلامية يصب في مصلحة إسرائيل والغرب، هو من غير جدال أو نقاش قول معاد، يجب رفضه، فهل ما زالت تلك القناعات قائمة في تفكيرنا، وعقولنا، وثقافتنا، وسلوكنا، ومواقفنا الفردية، والعامة على مستوى الأمة؟!
للأسف… تغيرت تلك القناعات، وبات الغرب عدو البارحة صديق اليوم… أمريكا اليوم زعيمة المسلمين والعرب، وإسرائيل صديقة الشعوب العربية، لم تكن خطورة إسرائيل في احتلالها لأرضنا، فنحن في العالم العربي، لم نكن نخرج من احتلال، حتى ندخل في احتلال آخر، و كنا ننتصر دائماً على هذا المحتل، لأنه لم يستطع الدخول إلى عقولنا، وثقافتنا، وفكرنا، وسلوكنا… إسرائيل اليوم نجحت في تحقيق هذا الدخول الخطير عبر الأنظمة العربية السياسية، والدينية، والثقافية، نحن اليوم أمام مدارس ثقافية وسياسية واقتصادية ومذهبية تسوّق إسرائيل للعبور إلينا، مدارس تدعو إلى رفض العروبة، والقومية، وتعمل على تكريس الثقافة القطرية، والمذهبية، والقبلية، والإثنية.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى حقيقة مفادها أن إسقاط أي نظام سياسي هو أسهل بكثير من بناء نظام جديد، لأن الوصول إلى خارطة طريق في هذا الاتجاه لابد له من مواجهة المصاعب والعثرات التي تحتاج إلى أعلى درجات الالتزام والمسؤولية حتى لا تقع البلاد فيما لا يحمد عقباه من اختلافات ومخاطر، وما يجري في العراق وتونس ومصر وليبيا وسورية واليمن… يشير إلى هذه الحقيقة، ولأن للديمقراطية أنياباً، فهي تشترط الوعي لتحقيق أهدافها النبيلة، الوعي الديمقراطي المرتبط بتنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة، حتى تأتي هذه الديمقراطية أكلها كما يجب أن تكون، وربما كان تطبيق ذلك أكثر صعوبة وتعقيداً من إسقاط أي نظام سياسي.
مصطفى قطبي -بانوراما الشرق الاوسط