ألمانيا: خشية من تحقق “خطة مورغنثاو”
موقع قناة الميادين-
ليلى نقولا:
ستواجه ألمانيا تحديات على صعيد المنافسة في جذب الاستثمارات، ولكن ما يمكن أن يخلق إرباكاً إضافياً للاقتصاد الألماني هو تلويح المفوضية الأوروبية بتقليل الاعتماد على الصين.
في كتاب شهير للباحث الأميركي من أصل ألماني ووزير الخزانة الأميركية هنري مورغنثاو بعنوان “ألمانيا هي مشكلتنا” (1945)، قدّم مورغنثاو “خطة” للتعامل مع ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ضمن الخطة تجريد ألمانيا ما بعد الحرب من صناعاتها وتحويلها إلى اقتصاد زراعي، معتبراً أن هذا هو الحلّ الأنسب لمنعها من أن تصبح مرة أخرى تهديداً للسلام العالمي والتوسع على حساب جيرانها.
بعد مرور 7 عقود ونيّف، يخشى العديد من الاقتصاديين في الغرب من أن يشكّل العقد المقبل ما كان يصبو إليه مورغنثاو في خطته، وأن تتجه ألمانيا بفعل الحرب الأوكرانية وبفعل سياسات أولاف شولتس وحكومته إلى عدم التصنيع.
تقاطعت سياسات أولاف شولتس مع السياسات التي انتهجتها أنجيلا ميركل، التي ركّزت على النمو الاقتصادي، وساهمت عبر تعزيز العلاقة مع روسيا (تأمين الغاز بأسعار منخفضة) وفتح باب اللجوء للسوريين (تأمين يد عاملة) في تعزيز الصناعات الألمانية، فأصبحت ألمانيا رابع أكبر اقتصاد في العالم وثالث أكبر مصدر للبضائع.
مباشرة بعد بدء الحرب الأوكرانية، اندفع المستشار الألماني أولاف شولتس في 27 شباط/فبراير 2022 إلى الإعلان عن خطة لتعزيز الجيش الألماني، وتعهّد تقديم 100 مليار يورو (112.7 مليار دولار) من ميزانية 2022 للقوات المسلحة، ووعد بالوصول إلى 2% من إجمالي إنفاق الناتج المحلي على موازنة الدفاع استجابة لمطالب حلف الناتو، وهو ما استمرّت ميركل برفضه، على الرغم من كل التهديدات التي قام بها دونالد ترامب.
اليوم، يتحدث العديد من الاقتصاديين بتشاؤم عن مستقبل التصنيع في الاتحاد الأوروبي ككل، وفي ألمانيا على وجه الخصوص، ويشيرون الى أن مستوى التصنيع سيتراجع حتماً في القارة بسبب التضخم والركود وارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا، ليأتي أخيراً قانون “خفض التضخم الأميركي”، فيشكّل خطراً حقيقياً على أوروبا أكثر مما يشكّله على الصين نفسها.
تشير الإحصاءات الرسمية الألمانية، بحسب إحصاء أجراه اتحاد الصناعات الألمانية (BDI) في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، إلى أن حوالى 20% من الشركات الصناعية الألمانية المتوسطة الحجم (Mittelstand) تفكر حالياً في نقل مواقع إنتاجها إلى دول ثالثة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والحوافز الضريبية في أماكن أخرى، فيما تفكّر أخرى في الإقفال بسبب الكلفة الباهظة.
أمام هذا الواقع، تنظر كل من فرنسا وألمانيا إلى الحلول لهذه المعضلة بطرق متباينة. يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن هناك حاجة لإجراءات أوروبية مماثلة لقانون التضخم الأميركي تسمح بدعم الشركات الأوروبية، وأن يكون لأوروبا “إطار خاص بها” تسمح بموجبه بإعطاء حوافز وإعانات للشركات الخاصة للبقاء في الاتحاد.
في المقابل، تتباين الرؤى في ألمانيا حول الإطار المثالي لمواجهة خطر “عدم التصنيع” وهجرة الصناعات والاستثمارات، ففيما يقول تيار سياسي داخل ألمانيا إن أوروبا بحاجة إلى إطار قانوني جديد يسمح بـ “الإعانات للإنتاج الصناعي” للحفاظ على الصناعات في جو من الحمائية الدولية، يدعو تيار آخر إلى تنظيم المجال الاقتصادي بدل دعمه، ويقول إن المنافسة والسباق العالمي على دعم الصناعات ليسا حلاً، وإن التحدي والمنافسة يجب أن يكونا على “مستوى المنافسة والابتكار”، وليس الدعم الحكومي.
ويتجه العديد من المسؤولين الأوروبيين إلى دعم فكرة إنشاء “صندوق سيادي أوروبي” يقوم بتأمين الأموال اللازمة لحماية المصالح الأوروبية في وجه الحمائية الأميركية والمنافسة الصينية التي تتمتع بتنافسية أفضل بسبب الكلفة الأقل التي تؤمّن هامش ربح أكبر، لكن تبرز التحديات في أوروبا على الشكل التالي:
1- تخشى دول الاتحاد الأوروبي من أن سنّ قانون أوروبي يسمح لكل دولة بأن تقوم بدعم صناعاتها وشركاتها الوطنية قد يؤدي إلى مشاكل كبرى، ويلحق الضرر بالسوق الأوروبية المشتركة، فيكون باستطاعة الدول الأكبر والأكثر اقتداراً تقديم الدعم لشركاتها، فيما تعجز عن ذلك الدول الأفقر، وهذا سيخلق هوّة بين الشركات في الاتحاد الأوروبي نفسه.
2- في المقابل، قد يكون الحل هو ما اقترحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن يقوم الاتحاد الأوروبي بإنشاء آلية لتقديم حوافز وإعانات مالية مشابهة لما يقوم به الأميركيون تحت عنوان “اشترِ أوروبياً”.
لكن تخشى بعض دول الاتحاد أن يكون تأسيس “الصندوق السيادي الأوروبي” المقترح عاملاً مقوّضاً للوحدة الأوروبية، إذ تتم المنافسة والتزاحم داخل الاتحاد الأوروبي للحصول على الإعانات والدعم للشركات الخاصة، وعلى النسب والكوتا التي يمكن لكل دولة الحصول عليها.
ويعتبر العديد من الليبراليين الأوروبيين أن هذا يتعارض مع معايير المنافسة الاقتصادية، ويخلق مخاوف من الحروب التجارية داخل الاتحاد، ويتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية.
في النتيجة، ستواجه ألمانيا، كما الاتحاد الأوروبي، تحديات على صعيد المنافسة في جذب الصناعات والاستثمارات في ظل زيادة الحمائية الأميركية وزيادة أسعار الطاقة، ولكن ما يمكن أن يخلق إرباكاً إضافياً للاقتصاد الألماني، المتضرر الأكبر من قطع العلاقات مع روسيا، هو تلويح المفوضية الأوروبية بتقليل الاعتماد على الصين، علماً أن الأخيرة هي أكبر شريك تجاري لألمانيا (اشترت بقيمة 100 مليار يورو من البضائع الألمانية العام الماضي). حينها، وحفاظاً على الوحدة الغربية، ستسير ألمانيا نحو تطبيق “خطة مورغنثاو” فعلياً بانعدام التصنيع.