أزمة جديدة فى الحلف الغربى
أطلق مارك توين عبارة تنفع فى فهم الوضع الراهن للحلف الغربى ووضع المؤسسة الاستخباراتية فى المنظومة الدولية، وبخاصة بعد التسريبات التى خرجت عن الخبير الأمريكى إدوارد سنودن.
وهى التسريبات التى ساعد على نشرها جلين جرينوالد الصحفى الشهير من خلال كتاباته فى صحيفة الجارديان البريطانية وأحاديثه فى تليفزيون لوجلوبو فى ريو دى جانيرو. يقول مارك توين إن الدرس الذى يتلقاه شخص يجذب قطة بعنف من ذيلها، لن يتلقى درسا مثله فى أى موقف آخر أو مع كائن آخر.
عاشت عواصم العالم الكبرى حالة هياج سياسى خلال الأيام الماضية فى أعقاب نشر تفاصيل عن ترتيب جديد يتعلق بنشاط التجسس الذى تمارسه وكالة الأمن القومى الأمريكى. الغريب فى الأمر أن المسئولين فى هذه العواصم «الهائجة» كانوا على علم بأن قضية التجسس الأمريكى على مكالماتهم ومكالمات المواطنين فى دولهم ستنفضح أمام الرأى العام إن آجلا أم عاجلا. ومع ذلك فإنه حين أعلن عن عمليات تنصت على مكالمات السيدة انجيلا ميركل هاجت الدنيا وكأن أحدا لم يتوقع هذا الخبر. كنا نعرف أن القادة الأوروبيين يستعدون لمناقشة تشريع جديد يصدر عن المفوضية الأوروبية ينظم عملية نقل شركات التكنولوجيا الرقمية المعلومات التى تخص المواطنين الأوروبيين إلى الحكومة الأمريكية فى حالة طلبها هذه المعلومات. وكان المتوقع أن تحاول حكومات أوروبا ترتيب الأمر بشكل لا يؤثر فى المفاوضات الجارية مع الولايات المتحدة حول إنشاء منطقة تجارة أمريكية أوروبية. كنا، كمتابعين للعلاقات الدولية نعرف أن التنصت على مئات الملايين من المكالمات يحدث كل يوم وآخرها الكشف عن أجهزة تنصت أمريكية تسجل جميع اتصالات ومحادثات المسئولين والموظفين فى مقر الاتحاد الأوروبى فى بروكسل.
الواضح فى كل الأحوال لمن تابع تطور قضية التوسع فى استخدام المعلومات الشخصية للمتعاملين مع شركات التكنولوجيا الرقمية مثل جوجل والفيس بوك وياهو وغيرها، أن الشعوب غير مبالية بالقدر الكافى الذى يسمح للمشرعين والحكومات بوضع قيود على المتاجرة بالمعلومات التى تتاح لهذه الشركات عن الأفراد. بل لعلنا نذكر الموافقة الضمنية حينا والعلنية معظم الوقت من جانب الشعب الأمريكى خاصة على الإجراءات التى اتخذتها حكومة الرئيس بوش، ثم حكومات أخرى فى شتى أنحاء العالم فى أعقاب حادثة تفجير برجى نيويورك فى 2001. وقتها صدر قانون «الوطنية» الذى أغدق على وكالات الاستخبارات وقوى الأمن الأموال وتغاضى عن التجاوزات الدستورية والقانونية تحت ذريعة محاربة الإرهاب. ومازلنا، هنا فى الشرق الأوسط، ومازالت شعوب كثيرة تخضع لإجراءات غير إنسانية ولتعديات عنيفة وكثيفة على مساحات الخصوصية الفردية بسبب الإرهاب حقا أو زيفا. فى كل الأحوال، وأظن فى كل البلدان، كانت ردود الفعل الشعبية مترددة إن لم تكن مؤيدة، الأمر الذى فسره محللون وقادة رأى وحقوقيون بأنه ربما يعود إلى أن الإنسان المعاصر اندفع نحو استخدام وسائط الاتصالات الرقمية بشكل مكثف وأحيانا بتهور شديد. مدركا خطورة الآثار الجانبية لهذا الانغماس. من هذه الآثار اختراق «الآخرين» المتزايد لخصوصية مستخدم هذه الوسائط. منها أيضا قبوله المتصاعد بالتجاوزات القادمة من مؤسسات الدولة ومن مواقع قيادية فى العمل. حتى الشباب والأطفال صاروا لا يعترضون على تجاوزات الأهل واختراقهم المتزايد لخصوصياتهم.
لم نشهد خلال السنوات الأخيرة ما يشير إلى أن الرأى العام العالمى وداخل كل دولة مستعد للتحرك ضد تغول السلطات الاستخباراتية والأمنية بشكل عام. ويبدو أن قوى الجاسوسية عامة، وبخاصة فى الغرب، تصورت أن الشعوب كلفتها بتفويض مفتوح أن تتجسس كيفما شاءت ومتى شاءت طالما استمرت قوى إرهابية تعمل للتخريب والتدمير. ومن ناحيتها أقدمت هذه المؤسسات الاستخباراتية على تطوير أساليبها ومنها الاستخدام الواسع للطائرات بدون طيار. واعلنت وكالة الأمن القومى الأمريكية عن أنها تزمع إقامة مقر جديد لها تسمح مساحته وامكاناته وموارده المالية والتكنولوجية بتسجيل وتحليل وحفظ أكثر من عشرين مليار رسالة إلكترونية يومية من جميع أنحاء الولايات المتحدة والعالم الخارجى. لا أذكر أننى قرأت أو سمعت عن رد فعل قوى من جانب الكونجرس الأمريكى أو فى أجهزة الإعلام الأمريكية ينتقد هذا التوجه أو يثير اعتراضا.
فى ظل هذه المبالاة بدت غريبة ردود الفعل القوية فى ألمانيا لنبأ تنصت الأجهزة الأمريكية على هاتف السيدة ميركيل. فجأة تحرك الشعب الألمانى. وبعده تحرك الشعب الفرنسى. تحرك الشعبان لأن أمريكا تجسست على زعمائها وعلى مواطنين ألمان وفرنسيين. بمعنى آخر، الغضب لم يكن ضد الممارسة أو ضد التجسس بشكل عام وإنما ضد أن يقوم بهذا التجسس طرف أجنبى. مرة أخرى تثور النعرات القومية التى طالما انتقدتها الولايات المتحدة وحاولت على امتداد عقود إبقائها كامنة.
كانت ميركيل على علم بأن أمريكا تتجسس على مكالماتها تماما كما كان يعلم هلموت شميدت مستشار ألمانيا من 1974 حتى 1982. ومع ذلك لم تتحرك ميركيل وتعلن غضبها وتسحب سفيرها إلا عندما تحرك الرأى العام الألمانى الحريص أكثر منها على كرامتها وكرامة موقعها. تحركت ميركيل لأنها خشيت من خطورة أن يزداد انفعال الرأى العام فيؤدى إلى إثارة قضايا من الماضى تؤثر فى خطط ألمانيا الأمنية والدفاعية. لا أحد ينكر أن الذاكرة الألمانية مازالت حية فيما يتعلق بتاريخ الجستابو وأجهزة التجسس النازية الأخرى وبتاريخ وكالة الاستخبارات الألمانية الشرقية» شتاسى»، علما بأن ميركل نفسها كانت إحدى ضحاياها. لذلك وجب اظهار الغضب، وتعين السعى بسرعة لتهدئة الموضوع والطلب إلى أمريكا اتخاذ إجراءات تضمن تنظيم انشطة التجسس الخارجية بحيث لا تمس قادة الحلف الغربى.
فى فرنسا اختلف الوضع قليلا. إذ بينما كانت الضجة الشعبية أقوى جدا من أى مكان آخر، وكان رد الفعل الحكومى أيضا بنفس القوة، إلا أن قليلين فى أمريكا وفى أوروبا اهتموا بهذه الضجة الفرنسية. المعروف فى الأوساط الدبلوماسية أن علاقات الشك بين أمريكا وفرنسا تتدخل دائما لتضخيم الخلافات الطارئة بين البلدين. كانت العلاقة بينهما ومازالت مشوبة بالتباس شديد، هناك حب وهناك كراهية، وكلاهما يمتدان متلازمين فى التاريخ إلى عشرات السنين. معروف أيضا أن فرنسا هى الدولة الأكثر ممارسة، بعد الصين، لعمليات التجسس الصناعى والتجارى. وتعترف الأوساط الاستخباراتية الأمريكية بأنها تبذل جهودا كبيرة لمواجهة الجواسيس الفرنسيين.
من ناحية ثالثة، لا يخفى تأثير ما نشرته صحيفة لوموند من تفاصيل عن عمليات التجسس الأمريكية على فرنسا، وبخاصة ما ورد فيها أنها بلغت أكثر من 62 مليون عملية تنصت فى أربعة أسابيع فقط فى نهاية عام 2012.
بالمقارنة مع ألمانيا وفرنسا، كانت ردود الفعل هادئة فى بريطانيا التى سعت من جانبها لتأجيل مناقشة موضوع تعظيم نقل المعلومات عن المواطنين الأوروبيين إلى أمريكا. لاشك أن بريطانيا تحركت على الفور لتخفيف ثورة الرأى العام الأوروبى على أمريكا ولك أيضا لأنها خضعت على امتداد أسابيع لضغوط هائلة من جانب ممثلى شركات وادى السيليكون. وهى الشركات التى تحاول منع صدور إجراءات من الاتحاد الاوروبى تقيد حريتها فى التصرف فى البيانات الخاصة بمستخدمى وسائط الاتصال الإلكترونية.
كانت ردود الفعل كذلك هادئة جدا فى الصين وروسيا وجميع دول الشرق الأوسط، والسبب مفهوم. ففى الصين مازالت الرقابة قوية على الاخبار وبخاصة على قضية سنودن والرقابة على الهواتف ووسائط الاتصال. وفى الشرق الأوسط مازال الإرهاب وقوى التطرف الدينى تسعى بكل قوتها لدفع حكومات المنطقة نحو تصعيد المواجهة وممارسة قمع أشد وتسلط أعنف أملا فى تعظيم غضب الرأى العام ضد هذه الحكومات. ولا يخفى على أحد، أن الحكومات لا تبدو متضررة من هذا الوضع، بل أكاد أقول إن بعضها يبدو راضيا بتفاقم هذه الحالة المزرية. حالة ثلاثية العنف: سطوة الارهاب وقمع السلطة وغضب الرأى العام على الاثنين معا.
جميل مطر – الشروق