أزمة الوعي.. وفقه الأولويات!!
جريدة البناء اللبنانية-
د. محمد سيّد أحمد:
على الرغم من مرور ما يقرب من خمسة عقود على نصر أكتوبر 1973 إلا أنّ كثيراً من حقائق هذه الحرب لا زالت ملتبسة على الكثيرين، خاصة من الأجيال الجديدة فأثناء الاحتفال السنويّ بذكرى نصر أكتوبر تتواصل معي العديد من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية للحديث عن الحرب. وقبل عدة سنوات كنت أجلس بصحبة أحد الأصدقاء ممن يحمل درجة الأستاذية في أحد تخصصات العلوم الإنسانية، حين دقّ هاتفي وكان الاتصال من التلفزيون العربي السوري، وطلب مني الدخول مباشرة على الهواء للحديث عن هذه الذكرى العزيزة على قلوبنا جميعاً، وبالفعل بدأت الحديث عن الحرب وكيف تمكن الجيشان المصري والسوري من الاشتباك مع العدو الصهيوني على الجبهتين المصرية والسورية، وتلقين هذا العدو درساً لا ينسى وتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وبعد الانتهاء من المداخلة وجدت صديقي الأستاذ الكبير في تخصّصه والذي تخطى عمره الخمسين عاماً يوجه لي سؤالاً صادماً حول حرب أكتوبر، حيث تحدّث بثقة كيف تقول إنّ سورية شاركت مع مصر في هذه الحرب؟ وهل حبّك لسورية يجعلك تزيّف التاريخ؟ وبعد زوال المفاجأة والصدمة طلبت من الأستاذ الكبير أن يراجع معلوماته، وأن يدخل على محرك البحث على غوغل ليتأكد من أنّ كلّ ما ذكرته في مداخلتي صحيح.
لكن وبعد هذه المفاجأة الصادمة بدأت أفكر بعمق عن أزمة الوعي وكيف وصل بنا الحال أن يجهل الكثير من الحاصلين على الدرجات العلمية تاريخ بلادهم خاصة حروبهم وانتصاراتهم مع العدو الذي لا يزال يقبع فوق الأرض العربية كمحتلّ. وهنا تذكرت كلّ ما قرأته عن حرب أكتوبر في كتب التاريخ التي تدرّس لأبناء الشعب المصري من المرحلة الابتدائية وحتى انتهاء المرحلة الثانوية، وبالفعل تأكدت من أنه لم يذكر في تلك الكتب ما يؤكد أنّ حرب أكتوبر 1973 كانت حرباً مشتركة خاضها الجيشان المصري والسوري معاً في مواجهة العدو الصهيوني. وهنا فقط وجدت نفسي أوجد عذراً لذلك الأستاذ الكبير الذي غاب عن وعيه ما ذكرته في مداخلتي التلفزيونية، فإذا كانت أولى مراحل تشكيل الوعي هي الحصول على المعارف والمعلومات فالرجل عبر عملية تشكيل وعيه بحرب أكتوبر لم يقرأ في أيّ كتاب من كتب التاريخ المدرسية أنّ الحرب مع العدو الصهيوني في أكتوبر 1973 كانت مشتركة بين الجيشين المصري والسوري، وللأسف الشديد لم يحاول القراءة والاطلاع بعيداً عما يدرّسه، فغالبية حملة الشهادات العليا في بلادنا يقومون بحفظ ما يتمّ تلقينه لهم عبر مراحل التعليم المختلفة، والقليل والنادر هو من يسعى للقراءة وتنمية قدراته على التفكير النقدي، لذلك أصبحت غالبية الحاصلين على الدرجات العلمية في بلادنا من غير المثقفين.
وفي كلّ عام عندما تحل ذكرى حرب أكتوبر أتذكر هذه الواقعة وأعود مرة أخرى للتفكير في معركتنا مع العدو الصهيوني وفقه الأولويات عند تعاملنا مع الأخطار المحدقة بأمتنا العربية، وأقول لنفسي إنّ آفة العقل الجمعي العربي هي النسيان، لذلك دائماً ما نحتاج إلى إعادة تذكير هذا العقل الجمعي بأولويات المخاطر التي تحيط بأمتنا العربية حتى لا يفقد بوصلته، ويدخل في معارك جانبية ويترك معركته الحقيقية، ويجب أن نعترف بأنّ عدونا الحقيقي قد تمكن عبر العقود الخمسة الأخيرة أن يفقدنا بوصلتنا الحقيقية تجاه الأخطار المحدقة بأمتنا العربية، وهو ما زيّف وعي الغالبيّة العظمى من أبناء الشعب العربي، لدرجة جعلت البعض لا يفرق بين العدو والمنافس، بل تمكن العدو من أن يوهم بعض الحكام بأن معركتهم ليست معه بل مع الجيران خاصة الإيراني والتركي.
وإذا كانت حقيقة المشهد الراهن تؤكد أنّ هناك ثلاثة مشاريع في المنطقة تتمثل في المشروع الإيراني والتركي والصهيوني، فيجب تحديد موقفنا من هذه المشاريع الثلاثة، ويجب أن نحدّد بدقة أولويات المواجهة مع هذه المشاريع. وهنا يجب التأكيد على أنّ المشروعين الإيراني والتركي هي مشاريع منافسة وليست معادية، فالإيراني والتركي جاران ولهما حقوق تاريخية في جغرافية المنطقة، وتأتي محاولات التمدّد والهيمنة منهما بهدف الدفاع عن أمنهما القومي وهذا أمر مشروع – إذا استثنينا محاولات الاحتلال المباشر لبعض الأراضي العربية – ويمكن مواجهته في حالة بناء مشروع قومي عربي قوي يحدّ من هذه الطموحات ويقوم بفرملتها، وأيّ محاولة تتجاوز ذلك يجب ردعها وبقوة، أما المشروع الصهيوني فهو مشروع معادٍ لأمتنا العربية وليس له أيّ حق في جغرافية المنطقة، وبالتالي تأتي محاولات سيطرته وهيمنته على حساب أرضنا وثرواتنا ومقدرات شعوبنا، ولا بدّ من مواجهته عسكرياً واقتلاعه من فوق الأرض العربية المغتصبة، لذلك يجب أن تعي الجماهير العربية في ذكرى حرب أكتوبر أن هذه الحرب ليست الأخيرة مع هذا العدو الصهيوني. فمعركة التحرير الكبرى لم يحن وقتها بعد، اللهم بلغت اللهم فاشهد.