أزمة الكيان السياسي الأميركي: إنتصار باهظ الكلفة لرئاسة مجلس النواب
موقع قناة الميادين-
منذر سليمان/ جعفر الجعفري:
إجراءات التصويت وآلياته “الملتوية” داخل أروقة مجلس النواب، وامتداداً مجلس الشيوخ أيضاً، أضحت من مقدسات قيادات المجلس، بصرف النظر عن الولاء الحزبي.
أفرزت جولة انتخاب كيفين مكارثي رئيساً لمجلس النواب الأميركي انشقاقات وتداعيات في المؤسسة السياسية الأميركية، ظاهرها لدى الحزب الجمهوري وانقسامه بين تيار “الأقلية” الموالي للرئيس السابق دونالد ترامب وتيار المؤسّسة التقليدية.
كما أنها عكست حالة الانقسام الحاد في المشهد السياسي الأميركي، وما رافقها من فوضى داخل أروقة الكونغرس، ما ينذر بمعارك سياسية حادة في الدورة الحالية التي تنتهي بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2024.
من أبرز نتائج جولات الانتخاب الـ15 نجاح الرئيس السابق دونالد ترامب في البقاء النشط في المشهد العام بعد خسارة بعض مرشحيه في جولة الانتخابات النصفية، وقدرته على تقييد هامش المناورة للتيار التقليدي الحاكم، وكذلك قراره حسم المعركة في مقابل تنازلات رئيس المجلس الجديد، منها إقرار “مؤيديه الأربعة”، من كتلة تضم 20 نائباً، سقف الميزانيات المقبلة المخصصة لأوكرانيا، وإدخال تعديلات إلى اللوائح الداخلية تتيح الفرصة لأي عضو بمفرده الطعن برئيس المجلس وحجب الثقة عنه لإزاحته.
رئيس المجلس الجديد، كيفين مكارثي، أثنى على صديقه اللدود قائلاً: “أدى الرئيس السابق دوراً حاسماً في انتزاع آخر الأصوات اللازمة” لانتخابٍ سلس. في خطابه، بصفته رئيساً للمجلس، حدد الأولويات السياسية المدرجة في جدول أعمال الحزب الجمهوري، ولم يرد فيها أي ذكر لأوكرانيا، لكنه أوضح بعد جولة الانتخابات النصفية في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 أن الجمهوريين في مجلس النواب لن يسمحوا للحكومة الأميركية بتقديم مساعدات مالية غير محدودة لها.
ما جرى من عصيان بعض النواب المنتخبين لتوجّهات القيادة التقليدية عُدّ من المحرّمات، إذ رأى رئيس مجلس النواب الأسبق وأحد أركانه الفكرية، نيوت غينغريتش، أنَّهم “يلعبون بالنار ويسعون لإغراق الحزب الجمهوري بأكمله”، وقال: “ما شهدته البلاد يعدّ أكبر خطر نواجهه كحزب منذ عام 1964” (يومية “ذي هيل”، 2 كانون الثاني/يناير 2023).
“إستراتيجية” الحزب الجمهوري، داخلياً وخارجياً، أرسى معالمها نيوت غيغريتش إبان رئاسته مجلس النواب في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون (1995 – 1998)، وسمّاها “المعادلة الصفرية” التي لازمته وحزبه منذئذ. معادلة غينغريتش الشهيرة وصفها خصومه في الحزب الديمقراطي الذين تعاملوا معه بأنها “أعطت الأولوية لأسلوب المواجهة والتعطيل عوضاً عن التعاون وتقديم التنازلات المتبادلة”.
توقفت كبريات الصحف الأميركية مثل “نيويورك تايمز” عند تلك المعادلة الصفرية لتعيد تسليط الضوء على جذور بروز تيار “أقصى اليمين” وتأثيره في مسار الحزب الجمهوري، وجاء في تقريرها أنَّ الانتصار الباهر الذي حققه نيوت غينغريتش عام 1994 “أرسى نقطة بدء معادلة السياسة الصفرية التي أنتجت حركة حزب الشاي في عهد الرئيس ترامب” (يومية “نيويورك تايمز”، 7 كانون الثاني/يناير 2023).
كشفت معادلة غينغريتش حقيقة ما يجري في أروقة السياسة وفي الغرف المغلقة وما ينتج منها من قرارات بعضها مصيري. أولى ضحاياها كان تراجع النقاش المعمّق، والمطوّل أحياناً، في ما يطرح في جدول الأعمال من قضايا، واختفاءه تدريجياً، وصولاً إلى ما حدث حالياً بتصويت الأعضاء على قرارات صاغها قادة مجلس النواب من دون عناء قراءتها، “لكثافتها وقصر المدة الزمنية المتاحة” لمراجعة بضعة آلاف من الصفحات المقدمة.
وقد جرت العادة تضمين تلك الوثائق السميكة بقرارات وتعديلات لمصلحة مراكز القوى الكبرى، من شركات ومصالح اقتصادية ومالية، وحرمان الأغلبية الساحقة من الشعب من الاطلاع عليها أو استيعابها.
إجراءات التصويت وآلياته “الملتوية” داخل أروقة مجلس النواب، وامتداداً مجلس الشيوخ أيضاً، أضحت من مقدسات قيادات المجلس، بصرف النظر عن الولاء الحزبي. اشتهرت رئيسة المجلس السابقة نانسي بيلوسي بازدرائها محاولات طرح المبادرات للنقاش، ومن ثم التصويت عليها، ومعاقبة كل من يخرج عن سياستها بالإقصاء من اللجان العاملة أو خفض مرتبته التسلسلية وحرمانه من التحدث مباشرة إليها.
وبناءً عليه، جاء نفر قليل من أعضاء الحزب الجمهوري ليمارس تحديه للسّلطة بصورة علنية كشفت بعض مهازل السياسة الأميركية، خصوصاً في أحد مطالب تلك المجموعة “البسيطة” بطرح سحب الثقة من رئيس/ة المجلس.
لقد حافظت بيلوسي بشدة على نصوص اللوائح الداخلية التي تضع شروطاً “غير عملية” أمام أعضاء المجلس للتصويت على إقالة رئيسه/رئيسته، وما أسفرت عنه جولة المواجهة الأخيرة من إلغاء تلك المادة في شقها التطبيقي.
في ظاهرها، تبدو مادة اللائحة الداخلية أعلاه إجراء عادياً لا يعوّل عليه كثيراً، لكن الممارسة الأبعد تطال صلب بنود الميزانيات المقدمة لمجلس النواب لإقرارها، والتي كانت تطرح ويصوّت عليها تلقائياً بحسب “أهواء” رئاسة المجلس وموازين القوى التي فرضتها.
وثمة تغيير نادى به بعض “الليبراليين” منذ عقود فيما يخص التصويت على الميزانيات المقدمة، ولكنه اصطدم بكل مراكز القوى الممثلة في الحزبين، وقد يؤدي إلى إدخال بعض التعديلات من خارج إرادة المؤسسة الحاكمة.
أبرز القضايا الجدلية التي أضحت تخضع للمساءلة هي رفع سقف الديون الفيدرالية بنحو تلقائي لتمويل خطط الحكومة الأميركية داخلياً وخارجياً. وقد صوّت مجلس النواب، في تركيبته الجديدة، على نقض مشروع تمويل سابق لهيئة الضرائب قيمته 70 مليار دولار، كان يرمي إلى إضافة نحو 87،000 عنصر إلى كادر الهيئة. وستواجه هذه القضية مقاومةً ورفضاً جديداً في مجلس الشيوخ عند طرحها، لكنها تدلّ على عمق الأزمة السياسية في عدة مجالات.
تبادل الحزبين مراكز صنع القرار في مجلس النواب حالياً ترافقه تطبيقات مماثلة لبعض القضايا الخلافية بينهما، خصوصاً تلك التي اعتمدها الحزب الديمقراطي في التحقيق بممارسات ترامب ومحاولة تقديمه للمحاكمة، بصرف النظر عن حقيقة تلك الاتهامات، إذ سيلجأ الحزب الجمهوري، كما وعد قادته، إلى استهداف الرئيس جو بايدن وإخضاعه للمساءلة والتحقيق، بدءاً بحيازته ملفات أمنية بالغة السريّة، وهي التهمة عينها التي دهمت بموجبها طواقم مكتب التحقيقات الفيدرالي مقر إقامة ترامب، وليس انتهاءً بتهم تورطه ونجله هنتر بمخالفات مالية وقضايا فساد متعددة الأوجه.
من المرجّح أيضاً طرح مجلس النواب الجديد السلطات والصلاحيات المتاحة لمكتب التحقيقات الفيدرالي للتدقيق بهدف تحديد سطوته الأمنية. وتعتقد نسبة معتبرة من الأميركيين أنه أحد أذرع البيت الأبيض، وأنه يُسخّر ضد خصومه، إذ حذّر عضو المجلس عن الحزب الجمهوري، توم كول، زملاءه من سطوة الأجهزة الأمنية.
وقال كول: “شهدنا في الأعوام السّابقة انتهاكات لحريات المواطنين الأميركيين المدنية اقترفتها السلطة التنفيذية (البيت الأبيض)، غالباً لدواعٍ سياسية”، مضيفاً أن مكتب التحقيقات الفيدرالي “دفع 3 ملايين دولار لشركة “تويتر” لمراقبة مواطنين أميركيين” (تصريحات النائب في 12 كانون الثاني/يناير 2023).
تماسك الحزب الجمهوري، والنظام السياسي بأكمله، هو الآن بأيدي قلّة “غاضبة وصفرية”. ولعل تاريخه السياسي القريب يؤشّر على موجة جديدة من الإرهاصات قد تطيح القوى الصاعدة حالياً.
يشار إلى أن الصعود الباهر لنيوت غينغريتش عام 1979، آتياً من استغلاله حالة السخط وتذمّر الناخبين الجمهوريين من مستقبل البلاد، الذين وصفهم الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون بـ”الغالبية الصامتة”، أطاحته مراكز القوى في حزبه عام 1998، على خلفية تساهله وموافقته على “صفقة تحديد الميزانية الفيدرالية” مع الرئيس بيل كلينتون.
ما ينبئ به المستقبل القريب هو تمادي حالة عدم اليقين والتشاؤم، ونشوء أرضية خصبة لبروز تيارات أكثر تشدداً في توجهاتها الداخلية والخارجية، يعززها الاستقطاب الحاد في المجتمع الأميركي.