أزمةُ الدولة من الإمَـامة إلى الجمهورية
صحيفة المسيرة اليمنية-
عبدالملك العجري:
الأَزْمَةُ التي واجهتها دولةُ الإمَـام يحيى حميد الدين مع زعيم قبيلة حاشد الشيخ ناصر الأحمر وابنه حسين بن ناصر الأحمر في 1912م لا تختلفُ في طبيعتها عن الأَزْمَة التي واجهتها جمهوريةُ الحمدي مع حفيده الشيخ/ عبدالله الأحمر في السبعينيات من القرن الماضي.
في مذكراته يوضح الشيخ/ عبدالله الأحمر طبيعةَ الأَزْمَة بين الإمَـام ووالده وجده الشيخ ناصر الأحمر، فعلى حَدِّه: “قبيلة حاشد كانوا أنصار الدولة أَو الإمَـام لا رعايا”، وهو توضيحٌ يلخّص الخلافَ على طبيعة العلاقة التي يجبُ أن تكونَ بين الدولة والقبيلة أَو شيوخ القبيلة في تصوَرين:
تصوُّر يرى أن كُـلَّ أَفْــرَاد الشعب وقبائله رعايا وَمواطنون للدولة التي لها الحق في فرض سيطرتها على جميع رعاياها وبسط نفوذها على جميع أراضيها، بما فيها أراضي قبيلة حاشد.
وتصوُّرٌ يمثله الشيخ عبدالله الأحمر وشيوخ القبائل الأقوياء يرى أن حدود سلطة الدولة في المدن، أمَّا القبائلُ فهم مُجَـرَّدُ أنصارٍ للدولة لا سلطةَ لها مباشرة على أَفْــرَاد القبيلة، فهم رعايا الشيخ صاحب الحق في الإدارة المحلية للقبيلة سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، وهو الخلافُ الذي حكم أزمة الدولة في اليمن عبر التاريخ، من الممالك القديمة السبئية والحميرية إلى العصر الحديث، وكانت قدرة الدولة على فرض نفوذها وسلطتها حسبَ سياستها مع شيوخ القبيلة وما يتوفر لها من وفر وفائضٍ اقتصادي يساعدُها على تعزيز شرعيتها، من خلال الخدمات التي تقدمها لأبناء القبيلة تربط مصالحهم بالدولة.
وإجمالاً كانت ظروفُ اليمن التاريخية الاقتصادية والطبيعية في معظمِ الأوقات لا تعملُ لصالح وجودِ دولة مركَزية قوية، كما سيأتي.
إلا أنَّ العقليةَ الثأريةَ التي حكمت الدراسات الاجتماعية في اليمن حيناً من الدهر، والسياسة الثأرية التي أحكمت سيطرتها على الدولة والثورة والجمهورية كعادتها في اختزال أزمات اليمن من انهيار السد إلى سقوط شرعية هادي في نظام الإمَـامة والهاشمية والزيدية، التفسيرُ السحري الأثير كآلية من آليات حجب الرأي العام عن رؤية فشلها، وفزاعة سحرية تعلّق عليها أزماتها، متناسية أن اليمن في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين -الفترة التي ظهر فيها مفهومُ الدولة الوطنية الحديثة- كان يحكُمُها الانجليز في الجنوب والعثمانيون في الشمال باستثناء الأرياف في شمال الشمال في حجّـة وصعدة وعمران، حتى العاصمة صنعاء كانت حينها تحت سيطرة العثمانيين وكانوا هم المسؤولين عن وضع اليمن في هذه المرحلة التاريخية المفصلية في حياة شعوب الشرق مع بداية عناصر ومؤثرات الحضارة الغربية في الهبوب على المنطقة وتحريك المياه الراكدة للشرق الغارق في التخلُّف الحضاري والسياسي.
وقبل هذه الفترة كانت معظمُ مناطق اليمن خارجَ نفوذ الدولة الزيدية التي انحصر نفوذُها في الهضبة العليا باستثناء فترات متقطعة، لا سيما على عهد الدولة القاسمية، أكثر من ذلك قبل قدوم الهادي لليمن وتأسيس الدولة في القرن التاسع الهجري (630) في عام الوفود وفد اليمنيون على شكل قبائل، وفي حين بدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعثُ رسائلَه للدولة والإمارات المجاورة كان يخاطب كُـلَّ دولة أَو إمارة باسم ملكها، فارس والروم ومصر والحبشة والحيرة، والبحرين، إلَّا اليمن أوفد إليها عدداً من المبعوثين، وخاطب رؤساءَ القبائل؛ نظراً لغياب سلطة مركَزية قوية تمثلهم. لذلك فَـإنَّ هذا السببَ السحري الأثير لا يسعفُ العقلية الثأرية في تغطية أوضاع اليمن في كُـلّ أقاليمه وفي كُـلّ تواريخه، وإن ساعدهم مرة سيخذلهم ألف مرة.
ليس الهدف -كما أسلفنا- الدفاع عن الإمَـامة ولا الطعن في الجمهورية إنما إعادة الأمور إلى نصابها ونسبة الظواهر إلى أسبابها وتحطيم السياجات الثأرية التي ضللتنا حيناً من الدهر ولا زالت تضللنا عن إدراك أزمة الدولة ومحاولة استكشاف أسبابها، بما من شأنه أن يساعدَ في التشخيص السليم، وبالتالي معالجات فعّالة، وذلك من خلال إحاطة بانورامية على وضع الدولة وانتقاء محطات تاريخية تُبرِزُ بشكل إجمالي أهمَّ العناصر والمحدّدات التي حكمت الدولةَ في اليمن قوةً وضعفاً.
بشكل إجمالي، يمكنُ أن نحدّدَ أزمةَ الدولة اليمنية تاريخيًّا في أربعة محدّدات رئيسة -ما زال عددٌ من عناصرها يؤثر على وضع الدولة المعاصِرة- ندرة الموارد وشيوع الملكيات الخَاصَّة للأرض، والضعف المزمن الذي أصاب الدولة اليمنية وسُلطتها المركَزية الموحَّدة منذ القرن الأول الميلادي، تعاظم نفوذ القبيلة وقوة التقاليد القبلية كبديلٍ أكثرَ ضماناً من سلطات الدويلات الهشة وَغير المستقرة.
ظروفُ اليمن الطبيعية وموارده الاقتصادية، لم تكن توفِّرُ أكثرَ من أسباب البقاء وتقتضي من السكان جُهداً فائقاً ولا تسمح بوجود وفرٍ في الفائض الاقتصادي يساعد الدولة على بناء مؤسّسات قوية وفرض سلطتها ونفوذها على كُـلِّ إقليمها، فالزراعةُ تعتمدُ على الأمطار الموسمية غير المستقرة، كما تنعدمُ فيه الأنهار الدائمة الجريان نظيرَ الأنهار في العراق مصر والتي تساعد الدولة في السيطرة على مشاريع الري وربط اقتصاد المجتمع والسكان بالدولة، واستخدام فائض الإنتاج في مشاريعَ خدمية وأمنية واقتصادية وتعزز سلطة الدولة في المحلات والأرياف وليس فقط بالاعتماد على أدوات الدولة القهرية الأمنية والعسكرية.
يتعزز هذا بطبيعة الملكيات الخَاصَّة للأرض السائدة في اليمن، سواء الملكيات الخَاصَّة للأَفْــرَاد أَو العامة للقبيلة، فاليمن من البلدان الإسلامية القليلة التي أراضيها أراضي عشور، في حين معظم الأراضي الإسلامية خراجية بلاد الشام ومصر وآسيا الوسطى وغيرها والأراضي الخراجية، كما هو معروف ملكيتها للدولة وإقطاع خاص بالدولة وللسكان حق الانتفاع بالأرض مقابل نسبة يدفعونها للدولة، لكن لا يملكون رقبتها، وهذا يجعل مورد معيشتهم مرتبطاً بالدولة، واستمر هذا إلى العصر الحديث (وتربط كثيرٌ من الدراسات بين غياب الملكيات الخَاصَّة وقدرة الدولة على فرض سلطانها على سبيل المثال ترى أن الأَسَاسَ الاقتصادي لقوة سلطة واستبداد الدولة العثمانية يتمثل في الغياب الكامل للملكية الخَاصَّة).
أما في اليمن فالسائدُ هي الملكيةُ الخَاصَّةُ للأرض، سواء للأَفْــرَاد أَو للقبيلة، فهم يملكون رقبتها ويدفعون العُشر أَو نصف العشر زكاةً، الأمر الذي يعني استقلالَ الموارد الاقتصادية للسكان والمجتمع عن اقتصاد الدولة، وفي بلد زراعي كاليمن الأرض هي وسيلةُ الإنتاج والمورد الاقتصادي الأَسَاسي، وفي مجتمعٍ كهذا توفر له الأرضُ المعيشةَ والقبيلة الحماية فَـإنَّ الدولة فكرةٌ فائضةٌ عن الحاجة.
ونتيجةً للضعف المزمن للدولة فقد تولّد وعيٌ عامٌّ لتوزيع السلطة بين القبيلة والدولة، القبيلةُ حُكمٌ ذاتيٌّ لأبناء القبيلة، والدولة سُلطتُها تحكيميةٌ، أي مُجَـرّد حكم بين القبائل وليس حاكماً لها، لا سيما مع الخصائص التي اتسمت بها القبائلُ اليمنيةُ (قبل أن تتحول لغُول ابتلع الدولةَ بعد ثورة سبتمبر) كانت تجعلُها أكثرَ ضماناً من الدويلات غير المستقرة، فالقبيلةُ بطبيعتها الأصلية إدارةٌ ذاتيةٌ شَورية تعارِضُ سلطة الفرد، والشيخ لا يملِكُ سلطةَ سَنِّ الأعراف بل الحُكم وِفْـقاً لها، وهو مسؤولٌ عن حِماية القبيلة وأَفْــرَادها، وتقصيره في القيام بواجبه تجاهَها يعرضُه للمساءَلة واللَّوم، وشرعيتهم في سيادة القبيلة حسب قدرتهم في خدمة القبيلة، ولا يملك أدوات قهر لإخضاع القبيلة (تغير هذا بعد الثورة فأصبح لشيوخ القبائل الأقوياء سلاحٌ وجيشٌ وميليشيات قبيلة).