أزمات الكيان البنيوية وتسارع الإنهيار
موقع العهد الإخباري-
يونس عودة:
يعيش الكيان الصهيوني المؤقت على أرض فلسطين العربية أسوأ مراحله المتعاظمة بحيث إن الصراع الداخلي غير المسبوق يوسع الشروخ بين المكونات السياسية والاجتماعية اليهودية المتعددة التي لم تتمكن من انتاج مجتمع متوائم على مدى 75 عامًا من الاحتلال باستثناء قاسم مشترك واحد وهو الارهاب ضد الفلسطينيين والعرب.
ان الانقسام الحاصل بين مكونات الكيان لم يعد محصورًا بين فئتين متصارعتين فقط وانما بين فئات عدة، ويستحيل بعد سقوط الثقة بأصحاب السلطة اعادة ردم الهوة المتزايدة في الاتساع والعمق، ولا يبدو أن عملية الترقيع المؤقتة التي يسعى الأميركيون اليها ستنجح.
في الشكل يطفو على السطح معسكران متصارعان بشدة: معسكر اليمين الجديد، الأشد عدوانية الذي يسيطر على الحكومة ويضم في صفوفه خليطًا من منظّري الإرهاب من أقصى اليمين الشعبوي واليمين الكهاني والصهيونية والحردلية (المتزمتة قوميًا ودينيًا) والحريدية التي مرت بعملية “تهويد قومي” مستمرة، وذلك في مقابل المعارضة التي تقوم بالاحتجاجات على خطة الانقلاب القضائي لياريف ليفين وتجمع أحزاب الوسط واليسار واليمين الدولاني. ولكل معسكر سماته الطبقية والاجتماعية والإثنية ورؤيته لطابع الكيان. ويتوافق المعسكران على يهودية الدولة وعلى الصهيونية لكنهما يختلفان في تكتيك الوصول إلى الغاية.
لذلك فإن الأزمة أعمق من أن تحاول ما تسمى بـ”الدولة العميقة” -وهي الجيش وأجهزة المخابرات على اختلافها- منع تفاقمها بالترقيع الموضعي لمسألة الخلاف على التعديلات القضائية وتشكيل لجنة مفاوضات من الأطراف مهمتها الوصول الى حل بعد اعلان بنيامين نتنياهو تأجيل اقرارها لبضعة أسابيع.
لقد أظهرت الأزمة الطافية على السطح تداعيات مهمة سوف تنعكس حتمًا على بنية التشكيلات الاجتماعية مع تزايد التحذيرات العاكسة لهواجس “الحرب الأهلية”، ولهذا الأمر بحد ذاته تداعيات مهمة على ما يسمى “الجبهة الداخلية”، وبالتالي على مستوى الصراع مع محور المقاومة عمومًا ومع القوى الفلسطينية في المحور المقاوم خصوصًا.
لم يتمكن ما يسمى بـ”جيش الاحتياط” أن يكون بمنأى عن الصراع التصادمي في جوهره بين معسكرات معروفة بدمويتها، فجيش الاحتياط لدى الكيان يصنف ركنًا أساسيًا من مكونات “الأمن القومي الإسرائيلي”، وإحدى أهم الركائز التي تستند إليها آلة الحرب الإسرائيلية في أي عدوان. ولم يكن سابقًا أحد في الكيان مهما علا شأنه ينتقد حتى ارتكاباته غير الاخلاقية وجرائمه الموصوفة، لا بل إن الساسة والأمن والعسكر والمحكمة العليا، جميعها تشكل مظلة حامية له، ولذلك فهو مستثنى من الانتقاد باعتبار أنه لا يتأثر بالصراعات السياسية أو الحزبية داخل الكيان.
لقد تمدد الانقسام السياسي إلى داخل الجيش وطال جيش الاحتياط بشكل عام، وركنه الأساسي سلاح الطيران، الأمر الذي يشير الى تغيرات سوف تلعب دورًا جوهريًا وربما حاسمًا حيال ما يسمى “الأمن القومي الإسرائيلي”. وعليه حاول نتنياهو أن يلعب ورقة عاطفية ممجوجة مع قناعته بعمق الانقسام الأيديولوجي والعقائدي، عبر عنه وزراء في حكومته بشكل لا يدل على أي احترام لليد الاسرائيلية الأكثر طولًا واجرامًا، بالتوازي مع استخدام مصطلح للمرة الأولى منذ انشاء الكيان وهو “الانقلاب العسكري”.
قال نتنياهو: “مهما كانت الاختلافات، فنحن دائمًا متحدون أمام أولئك الذين يريدون قتلنا. الرفض يهدد هذا الأساس الوجودي، وبالتالي يجب ألا يكون له مكان لدينا (…) لا مجال للرفض. لأنه بمجرد أن نمنحه الشرعية، ستنتشر آفة الرفض وتصبح نظاماً”. وهذه المناشدة تعكس الانقسام الأيديولوجي والعقائدي المتجلي في الجدل حول الرفض في صفوف قوات الاحتياط، وخصوصًا من سلاح الجو ووحدات خاصة في الاستخبارات، لكن أركان حكومته استخدموا عبارات تدل على “الهوس” زايدوا فيها على نتنياهو مثل وزيرة المواصلات ميري ريغف التي دعت إلى محاكمة الطيّارين، فيما نعتهم وزير الاتصالات شلومو كرعي بـ “الوقحين” وأن إعلانهم الرفض خطوة “نتنة وتعيسة”، مضيفاً: “”شعب إسرائيل” سيتدبّر أمره من دونكم، اذهبوا إلى الجحيم”.
أما الوزير ايتمار بن غفير فقد ذهب إلى حد الدعوة إلى تسريحهم من الخدمة العسكرية. ومن تفوّقت على الجميع كانت وزيرة الدعاية غاليت دستل أتبريان التي كتبت: “الطيارون مع وقف التنفيذ ليسوا وطنيين. ليسوا ملح الأرض. ليسوا أفضل من شبابنا. ليسوا شعبا رائعاً. ليسوا “شعب إسرائيل”.. أنا أكنّ الاحتقار لكل واحد منهم”.
طبعًا كانت هناك ردود فعل على “الاهانات المتلاحقة” واعلان للتضامن مع المتمردين من الطيارين، حتى أن دان حالوتس -الذي كان رئيسًا للاركان في حرب تموز عام 2006 التي لا يزال الجيش الاسرائيلي يعاني من تعقيدات وعقد هزيمته فيها – رفض الالتحاق بقوات الاحتياط “حتى لو وقعت الحرب”.
ليس بسيطًا تصدر الركيزتين العسكرية والأمنية معارضة التشريعات الهادفة إلى الحد من استقلالية القضاء، ومشاركة قادة المؤسستين السابقين في حركة الاحتجاج لا سيما في الأسابيع الأخيرة، وكان من بينهم رؤساء أركان سابقون ورؤساء سابقون لأجهزة الاستخبارات العسكرية والموساد والمخابرات العامة (الشاباك) والرئيس السابق للجنة الطاقة النووية وجنرالات في قوات الاحتياط. وكان قد أعلن المئات من طياري الاحتياط في سلاح الجو أنهم سيوقفون تطوعهم في الخدمة في سلاح الجو “لأنهم لا يريدون أن يخدموا في دولة غير ديمقراطية”؛ ما يعني المس بنشاط سلاح الجو؛ لأن نسبة طياري الاحتياط فيه تصل إلى نحو 60 في المئة. وقد تبنى العديد من مشغلي الطائرات المسيرة الموقف نفسه، والخبراء وضباط الاحتياط العاملون في مجال “السايبر” في وحدة الاستخبارات العسكرية 8200. وقد امتدت حركة الاحتجاج إلى قوات أخرى في جيش الاحتياط مثل سلاح المدرعات، ووصلت أيضًا إلى الجيش النظامي. وكان لهذا العامل أثر كبير في إحداث بلبلة في معسكر نتنياهو، وخروج وزير حربه علنًا بمطلب تأجيل التشريع إلى حين التوصل إلى تسوية، إضافة إلى ثلاثة آخرين من نواب الليكود.
من التداعيات المهمة أيضًا، تراجع منسوب الولاء للحكومة من جهة وللجيش من جهة أخرى، والعمل على انشاء ميليشيات بغطاء حكومي من نتنياهو الذي فقد الثقة بالشرطة والأجهزة الأمنية وحتى الجيش، مثل “الحرس القومي”. ومقابل هذه الميليشيا أعلن المعارضون لنتنياهو تشكيلًا مضادًا لحماية أنفسهم وتظاهراتهم من ميليشيا بن غفير – نتنياهو باسم “الحرس المدني” لحماية المحتجين من اعتداءات ناشطي اليمين عليهم. وقال زعيم المعارضة يائير لبيد إنه من الأفضل ألا يؤسس حرس وطني تحت إمرة بن غفير، ووصفه بمهرج الـ”تيك توك” الخطير الذي لم يخدم في الجيش دقيقة واحدة.
وكان متان فلنائي نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي سابقًا قد قال إن إقامة حرس وطني تحت تصرف بن غفير بمنزلة منح المافيا الإيطالية جيشًا خاصًا بها.
ومن التداعيات التي تثبت تآكل الكيان بحيث بدأت الغدة السرطانية تتفاعل في جسده، الجدل والاتهامات بينه وبين الادارة الاميركية التي تمده بوسائل البقاء ما أمكن، لحاجتها له في المنطقة كذراع اخطبوتية. وفي هذا السياق، اتهم يائير نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الإدارة الأمريكية بتمويل الاحتجاجات في “إسرائيل” لإسقاط حكومة والده، والتوصل لاتفاق مع إيران. لكن وزارة الخارجية الأمريكية نفت ذلك، وقال نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية فيدانت باتيل “هذه الاتهامات باطلة تمامًا وبشكل واضح”.
طبعًا هذا الوضع ترافق مع اعلان بايدن أنه لن يستقبل نتنياهو حاليًا، مع نصح الأخير بالتراجع عن التعديلات القضائية، وعليه سارع نتنياهو للتأكيد على العلاقة العضوية مع واشنطن قائلًا: واشنطن و”تل أبيب” عرفتا اختلافات في الرأي من وقت لآخر، غير أن تحالفهما “راسخ لا يتزعزع، وما من شيء قادر على تغيير ذلك”. كما طلب من وزرائه عدم التعقيب على تصريحات بايدن بعد أن مرروا رسائلهم.
ووفقا لموقع “والا” الإسرائيلي، فإن مسؤولين أميركيين حذروا نتنياهو ومقربين منه من استفزاز الرئيس بايدن. وقالوا إن تحذيرهم لنتنياهو ينبع تحديدًا من أن بايدن يعرّف نفسه على أنه صهيوني ولديه خطوط حمر؛ حيث إنه لا يحتمل المساس بما يصفها بـ”الديمقراطية الإسرائيلية”، حسب تعبيره.
وكان وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير وجه انتقادًا شديد اللهجة للرئيس بايدن وإدارته، وقال إن عليهم “أن يفهموا أن “إسرائيل دولة” مستقلة، وليست نجمة أخرى في علم الولايات المتحدة”. في المقابل، قال زعيم المعسكر الرسمي ووزير الحرب الإسرائيلي السابق بيني غانتس إن أي مساس بالعلاقات مع الولايات المتحدة “التي تعتبر أفضل أصدقاء إسرائيل وأهم حليف لها يعد هجوما إستراتيجيا”. وأضاف غانتس -في تغريدة له- إن تصريحات الرئيس الأميركي بشأن التغييرات القضائية تعد إنذارًا عاجلًا لحكومة “إسرائيل”، داعيًا نتنياهو إلى التصرف بمسؤولية أمنية وسياسية.
ما يجري حاليًا في الحقيقة أزمة بنيوية في كيان أقيم عنوة وبلا أي مسوغ أخلاقي، يتغذى على احتلال أرض شعب ثائر. ورغم الظروف المحيطة القاسية والظروف الدولية المجافية للحق والعدالة، يؤكد هذا الشعب في يوم الأرض عدم تخليه عن أرضه التي احتلت عام 1948، ويرفض منحها لمستوطنين مستوردين من أقاصي الأرض. وهذا بحد ذاته يؤكد أن قوس المقاومة يكتمل على كل أرض فلسطين، ما يزيد في تعميق أزمات الكيان وتسريع انهياره، وهذه المقاومة بأشكالها المتعددة أثبتت أنها الحل لقضية لا مثيل لها في العالم القائم والذاهب بخطى ثابتة نحو عالم جديد يعيد الحق لأصحابه من فوهات البنادق.