أزلام آل سعود في لبنان: نفاق بنفاق..
لتيّار المستقبل تفسيراته الخاصّة لأيّ حدث يحصل على الساحة الداخلية أو الإقليمية. اتّخاذه لأيّ موقف إزاء أيّة قضية لا يستغرق وقتًا طويلًا.. ثوابته واضحة لا تحتاج الى شروحات: أيّ طارئ يباغت قيادته ويستدعي تعليقًا يخضع لعوامل الجغرافيا. هنا بيت القصيد. عندما يتعلّق الأمر بمملكة آل سعود لا مكان سوى للثناء والإشادة والتمجيد لسياسة الأسرة الحاكمة. في الأصل، ليس مسموحًا الخروج عن طاعة وليّ الأمر. ولأن أيّ مُستجدّ يتطلّب الإدلاء بما يلزم من تصريح حوله، لا بدّ لحزب الحريري أن يلائم بياناته مع ما يرضي الرياض، هل تقبل به أم لا؟ المسألة بسيطة غير معقّدة. مضمون أيّ بيان سياسي لن يخالف أهواء أرباب “التيار”.
أحدَثَ إعدام السلطات السعودية للشيخ نمر باقر النمر في 2 كانون الثاني الجاري موجة استنكارات عالمية، عرّت آل سعود من ادعاءات التقدمية والديمقراطية والانفتاح. إعلام المملكة الرسمي سارع إلى الإعلان عن الجريمة، مُعدّداً التهم الموجّهة إلى الشيخ الشهيد زورًا، دون إبراز أيّ مستند يُثبت صحة مزاعم وزارة الداخلية والمحكمة الخفيّة التي قاضت سماحته استكمالًا لنهج دام أربع سنوات لم تتضّح خلاله معالم المحاكمة السياسية السريّة لشيخ العوامية (شرق السعودية)، فقط إعلانات متسلسلة لإرجاءات كثيرة لجلسات المحكمة، خلصت في النهاية إلى قرار القتل تعزيرًا.
في لبنان، لم يتنبّه تيار “المستقبل” لتفاصيل القضية، آمن بتلفيقات قضاء آل سعود. لا حاجة لأيّة استفسارات عن الموضوع. اقتنع سريعًا بأن الحكم الصادر “عادل وشرعي”، فهو في الأساس ينصاع للتعميمات الملَكيّة، وبالتالي لن يبذُل جهدًا لاكتشاف مدى تطابق القضاء السعودي و”محاكم” تنظيم “داعش” الإرهابي. الحالاتان متساويتان تمامًا، فالمنطق الأحادي الرافض للآخر موجود لدى الطرفين، وسهولة القتل والإعدام بغطاء ديني متوفّرة لدى آل سعود و”الدواعش” على حدّ سواء. قطع الرؤوس يبيحه الجانبان أيضًا. كذلك يتفقان على الجلْد والتنكيل بكلّ من يُعارضهما. تلك المرآة التي تعكس الوحشية نفسها، لا تردع “الحريريين”، بل تزيد حجم تبعيّتهم العمياء لآل سعود، لذلك وجب على رئيس التيار سعد الحريري الدفاع عن المملكة، وإصدار بيان مطوّل يقول فيه إن “الشيخ نمر النمر هو مواطن سعودي يخضع كسائر المواطنين السعوديين والمقيمين في المملكة لأحكام القوانين السعودية”، مضيفًا “إننا على يقين تام بأن المملكة العربية السعودية، تلتزم حدود المصلحة الإسلامية والعربية، وان القرارات التي تتخذها لن تتعارض مع هذه المصلحة في شيء”. كلام إنشائي أرفقه الحريري بإيعاز إلى كوادر حزبه يُلزمهم بتلميع صورة القضاء السعودي ووصفه بـ”الشرعي والمستقل الذي يحكم بالعدالة”.
الحريري أتى على ذكر القوانين السعودية في بيانه هذا.. قوانينٌ لم تتّضح يومًا للرأي العام، فالإفتاءات الوهابية في المملكة لطالما كانت المرجع الأساس في أيّ قرار قضائي يصدر عن محاكم المملكة.. أحكامٌ تُحاسب كلّ مخالف لأهواء السلطات، لا لإحقاق العدل والقسط.
الملك سلمان والحريري
في المقابل، فُتحت شهية الحريريين منذ إخلاء محكمة التمييز العسكرية (المحسوبة رئاستها على فريق 14 آذار) سبيل الوزير السابق ميشال سماحة. لم تهدأ تصريحاتهم ولاسيّما قيادات “المستقبل” من أجل التنديد بـ”بفعلة” القضاء اللبناني. الحريري أدان الإفراج، معبّرًا عن شعوره بالقرف من “عدالة منقوصة وبالخوف على أمن اللبنانيين طالما ستبقى الأبواب مفتوحة للمجرمين للهروب من الحكم العادل”. الوزير أشرف ريفي الذي طاولته تهم دعم المسلّحين في الشمال نعى المحكمة العسكرية، قائلًا “بئس الزمن الذي يتآمر به قاض وضابط على وطنه وسأقوم بما يمليه عليّ واجبي الوطني”. الوزير نهاد المشنوق اعتبر بدوره أن “قرار إطلاق سراح سماحة إدانة واضحة ومؤكّدة لمحكمة التمييز العسكرية بكلّ المعايير الوطنية والقانونية والمنطقية”، فيما قال رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع الذي أُفرج عنه بعفو عام بعد إدانته بعدّة جرائم اغتيال وقتل، إنه يشعر بالعار بسبب إخلاء سبيل سماحة، وأضاف “كيف لي أن أفهم أن لبنانيًا تآمر مع جهة خارجية لارتكاب أعمال قتل وتفجير في بلاده ونقل متفجرات لهذه الغاية وجند أشخاصا لتنفيذها وجرى وقف المخطط في آخر لحظة من قبل فرع المعلومات؟ كيف لي أن أفهم إطلاق سراح هكذا شخص؟”.
وعلى المنوال نفسه، استنكر كلّ من النائب وليد جنبلاط ورئيس حزب الكتائب سامي الجميل ومنسق الامانة العامة لقوى 14 آذار فارس و النائب نديم الجميل ورئيس “حركة الاستقلال” ميشال معوض القرار. حتى الآن “السيمفونية” مستمرّة على وقع قطع “شبيحة المستقبل الطرق” في أكثر من منطقة.
هؤلاء جميعًا، يعزفون النغمة نفسها: القضاء اللبناني عارٌ، لعلّهم باتوا يفضّلون قضاء آل سعود و”الدواعش” الذي يفتقد إلى معايير “العدل والنزاهة”. ولأنّ الدوافع هنا مغايرة، انبرى “الحريريون” و”الآذاريون” إلى الهجوم على المحكمة العسكرية. محكمةٌ لم تستند سوى للقوانين اللبنانية الواضحة التي لا تحتاج إلى تفسيرات، فالقرار منشور بكلّ تفاصيله المدعومة بمواد النقض وأصول المحاكمات. اذًا لماذا التشكيك بقضاء جليّ يطبق قوانين حقيقية موجودة وموثّقة لا فضائية أو مستترة؟
الدفاع المستميت عن قضاء “الدواعش” مقابل الإنقضاض على قضاء الدولة اللبنانية التي يتغنّى “أصحاب السيادة” بالتمسّك بجميع مقوّماتها بات مكشوفًا. الإزدواجية مفضوحة: أحكام آل سعود حلال لا نقاش فيها، وأحكام الدولة اللبنانية حرامٌ حتّى توائم المنفعة المَلَكية والحزبية.