أردوغان يعيد رسم التوازنات: التحالف مع العسكر وضرب المؤسسات
صحيفة السفير اللبنانية ـ
محمد نور الدين:
شكلت فضيحة الفساد التي هزت رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، فرصة كي ينفذ انقلاباً مدنياً يطيح كل مشكوك بولائه في الدولة له ولحكومته ولـ«حزب العدالة والتنمية».
ولقد عمل أردوغان على خطوط عدة في الوقت نفسه، هدفها الأساسي حرف أنظار الرأي العام عن الانشغال بقضايا الفساد التي انفجرت في 17 كانون الأول الماضي، وشكلت إحراجاً فائقاً له، وخلق جدول أعمال جديد ينشغل به الرأي العام.
ولوحظ حتى اليوم، أن أردوغان لم يتطرق إلى فضيحة الفساد، واكتفى باعتبار إخفاء الأموال في علب للأحذية بأنه مجرد «خطأ»، من دون الإشارة إلى اتهامات الرشاوى والعمولات التي قاربت المئة مليار يورو.
انتهز رئيس الحكومة التركية الفرصة لا كي ينظف حزبه من المرتشين والفاسدين، بل ليتخلص من كل المؤيدين لرجل الدين فتح الله غولين في الدولة، من قضاة وقادة شرطة. وقد استمرت عمليات إقالة قادة الشرطة بحيث تحولت إلى مجزرة تكاد تشمل كل المدراء العامين في كل المحافظات ووضعهم في التصرف، ووصلت أمس إلى 16 محافظة.
كذلك، يتم استبدال قضاة تحقيق بآخرين، وآخرهم تنحية مدعي عام الجمهورية في اسطنبول زكريا أوز عن التحقيق في قضية الفساد، وتعيينه في دائرة قضاء باقيركوي، أحد أقضية اسطنبول.
وقد استبعد أوز عن التحقيق في قضية الفساد، بذريعة أن مصاريف رحلته إلى دبي قبل أيام، والتي كلفت أربعة آلاف دولار ونيفاً، قد تم دفعها من جانب جهات معينة، فيما أنكر أوز هذه المزاعم وقال إنه دفعها من جيبه، وتحدى أياً كان إثبات التهمة.
وتعد الحكومة أيضاً، مشروع قانون يعيد تشكيل المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، وهو أعلى هيئة قضائية. ويلحظ المشروع اعتبار ولاية جميع أعضاء المجلس الحاليين منتهية مع صدور القانون.
وقد وقف المجلس مؤخراً ضد تدخل الحكومة في شأنه، وكانت إعادة هيكلة المجلس المذكور في استفتاء 12 أيلول 2010، من الانجازات الأكبر التي فاخر بها «حزب العدالة والتنمية»، واعتبرها انتصاراً للديموقراطية. وها هو يعيد اليوم النظر في هذا الانجاز تبعاً للمصالح السياسية.
وطالت عملية تطهير الدولة من جماعة غولين، القطاع التربوي أيضاً، حيث بدأ تغيير عدد كبير من مدراء التربية في المحافظات، خصوصاً أن القطاع التعليمي يشكل أحد أكبر مراكز نفوذ غولين.
لكن المثير والمفاجئ أن أردوغان كان قادراً على الانقلاب على شعاراته بسهولة لم تبق على قيد الحياة أياً من العناوين التي رفعها خلال السنوات الماضية.
ولم يتردد من أجل تحصين سلطته في إعادة نسج التحالفات مع خصوم ألداء مثل المؤسسة العسكرية. وتلافيا لأي مفاجآت غير متوقعة، بعد تصفية كل قادة البوليس في كل مكان، أعاد أردوغان وصل الخيوط مع المؤسسة العسكرية وتقديم ما يشبه «الرشى» من العيار الثقيل.
ومن هذه الرشى، أولاً البحث عن صيغة قانونية لإعادة محاكمة الضباط المعتقلين في قضايا «المطرقة» و«أرغينيكون» والمتهمين بمحاولة الإطاحة بالحكومة بطريقة غير شرعية، وصدرت بحقهم أحكام بالسجن المؤبد أو السجن لأكثر من قرن، وعددهم يتعدى 250 ضابطاً.
وبدأت المسألة بشكوى إلى رئاسة أركان الجيش التركي ضد القضاء، والدعوة إلى إعادة المحاكمة. ولم يتأخر أردوغان، كما الرئيس التركي عبد الله غول، في التجاوب بالبحث المكثف عن صيغة تحقق ذلك. ولا شك أن هذه الخطوة سببت انتقادات كثيرة من جانب حلفاء أردوغان، على اعتبار أن تصفية قادة المؤسسة العسكرية كانت عنواناً لمعركة الديموقراطية وإبعاد الجيش عن السياسة، وكانت مفخرة لمسيرة أردوغان الديموقراطية.
وقد اعتبر محللون أن التحالف الجديد مع المؤسسة العسكرية يفتح الباب من جديد أمام عودة الوصاية العسكرية. لكن رئاسة أركان الجيش أبلغت صحيفة «حرييت» التركية وعلى لسان رئيس الأركان بالذات، الجنرال نجدت أوزيل، أن الجيش ملتزم الوعود الحقوقية والديموقراطية، وأنه لا يمكن العودة إلى زمن الوصاية العسكرية، بل سيكون الجيش مساعداً لترسيخ الديموقراطية.
الخطوة الثانية لاستمالة المؤسسة العسكرية، هو قرار القضاء العسكري اعتبار ملف المحاكمة بشأن مجزرة أولوديري التي نفذتها طائرات حربية تركية ضد قرويين أكراد في 28 كانون الأول العام 2011، وذهب ضحيتها 34 قروياً على الحدود مع العراق.
وكان تقرير القاضي المختص أكد أن العملية تمت بأمر من رئيس الأركان نجدت أوزيل شخصياً، وبموافقة رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان. وقد قوبلت عملية ختم الملف في أولوديري بانتقادات واسعة، ولاسيما لدى الأكراد، واعتبروا القرار مجزرة أخرى بحق الضحايا.
لكن الرشاوى لم تقف عند حدود المؤسسة العسكرية، بل طالت كذلك «حزب العمال الكردستاني»، ذلك أن طلب إعادة المحاكمة لضباط الجيش ستشمل أيضاً إعادة المحاكمة لعناصر «الكردستاني»، والذين يقدرون بالآلاف، واحتمال فتح الطريق أمام العمل السياسي لعناصر الحزب، وهو ما يثير رضى لدى زعيم الحزب عبد الله أوجلان.
كذلك أتى في سياق هذه الرشاوى إطلاق العديد من النواب الأكراد في قرار قضائي عشية الانتخابات البلدية، وفي معمعة انفجار الخلاف بين أردوغان وغولين.
وفي هذا المجال، يلعب أردوغان لعبته المفضلة: تسكين أوجلان لاستمرار وقف النار الحالي، وإيقاع شقاق بينه وبين قيادة جبل قنديل المنزعجة من عدم مبادرة أردوغان لأي خطوة إيجابية بشأن المسألة الكردية.
مع التذكير هنا بأن موقف «حزب العمال الكردستاني» لم يكن حاداً ضد أردوغان بشأن فضيحة الفساد، على اعتبار أن المستفيد منها، أي جماعة فتح الله غولين، على علاقة سيئة جداً بل تعتبر عدواً لـ«الكردستاني».
من هنا، كان «حزب العمال» بمثابة «بالع الموسى» في هذه القضية. فهو لا يريد الذهاب بعيداً ضد أردوغان حتى لا يستفيد من ذلك غولين، ولكنه لا يستطيع أن يغطي فضيحة الفساد.
تغير التطورات الجارية في تركيا المشهد الداخلي في اتجاه إعادة نسج توازنات وتحالفات جديدة بعيداً عن شعارات مثالية مثل الحريات والديموقراطية والدولة المدنية والفصل بين السلطات، وتعيد الاعتبار إلى المصالح أولاً وأخيراً، من أجل هدف وحيد وهو حماية «حزب العدالة والتنمية» نفسه من الأخطار، والاستمرار في السلطة تحت راية «الزعيم الأوحد» رجب طيب أردوغان، في ظل انهيار شبه شامل لمفهوم الدولة والقانون.
إلى ذلك، عبرت المفوضية الأوروبية أمس، عن «قلقها» إزاء الأزمة في تركيا، وطالبت بتحقيق «شفاف وحيادي» حول اتهامات الفساد.
وقال احد المتحدثين باسم المفوضية أوليفييه بايي إن «التطورات الأخيرة في تركيا تشكل مصدر قلق للمفوضية الأوروبية»، داعياً إلى تحقيق «شفاف وحيادي» حول المزاعم بالفساد التي طالت بعض القادة الأتراك.
وأضاف «نطالب تركيا باتخاذ كل الإجراءات اللازمة» في هذا الصدد، مذكراً بأنه بصفتها مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عليها أن «تحترم معايير الانضمام ومن بينها احترام دولة القانون».