أحمد القبانجي … مرة أخرى
موقع إنباء الإخباري ـ
بغداد ـ محمد هاشم البطاط*:
طفت على سطح الوضع العراقي المغرق في إشكالياته قضية إعتقال الكاتب العراقي أحمد القبانجي في ايران، و من ثم الافراج عنه قبل السلطات الايرانية، و عاد الكثير من الذين يضخمون الاحداث الى اعادة توجيه المنجز المعرفي الذي قدمه القبانجي بوصفه واحداً من اكبر التنويريين الاسلاميين ضمن مناخات المشهد الثقافي المعاصر. اعتقد ان من الصعوبة بمكان الارتكان الى قبول موضوعة السمة الاطلاقية (الجزافية) لمفردة “مفكر” بطريقة تسويقية- دعائية على كل من كتب او ترجم، فإشتراطات الوصف تتطلب مزيداً من التحليلات الثاقبة لموضوعة الطرح، وتقديم البديل الذي لم يسبق اليه احد، أما ان يُصار الى محاولات إجترارية لما قدمه الآخرون، فهذا لا يعدو كونه تسطيحاً للتفكير الانساني السليم.
كان القبانجي قبل سنين عدة يمثل واحداً من رجال الدين الذين يُطلق عليهم (القبانجي) اليوم بـــ (التقليديين)، و ربما لا يعرف الكثير انه مصاب في الجهة اليمنى من جسده دفاعاً عن النظام السياسي الذي يهاجمه اليوم “نظام ولاية الفقيه” !! ، إذ اشترك إبّان الحرب العراقية – الايرانية الى جانب الجيش الايراني!! ، وهذا يعني بلغة القبانجي المعاصرة “خيانة للوطن وضياع للمواطنة” إذ كيف سمح لنفسه بالاشتراك في حرب ضد بلده؟
بعد ذلك اشتغل بترجمة الكتب الفارسية التي كتبها علماء كبار، مثل موسوعة “اصول الدين” التي كتبها السيد عبد الحسين دستغيب ، كما كتب القبانجي جملة مؤلفات تسير في سياق النظرية الاسلامية وتذود عنها، من أهم ما كتبه في تلك المرحلة “نظريات علم النفس، ما لها وما عليها” و”النفس عند علماء المسلمين” ….
بيد أن الحِراك الفكري في الساحة الايرانية شهد انعطافاً جديداً في مرحلة ما بعد الحرب العراقية –الايرانية ، إذ برز جملة من المفكرين الايرانيين الذين استندوا إلى الطروحات التنظيرية في الغرب، والوثبات المتسارعة لعالم ما بعد الحداثة، في محاولتهم لإعادة قراءة الفكر السياسي الاسلامي وموضوعات السلطة والموقف الفقهي منها، ودور رجال الدين في المسألة السياسية، وجدلية العلاقة بين الاسلام والمدنية /الديمقراطية/ التعددية، وغيرها من الاشكاليات التي ما زال المسلمون يسعون إلى تقديم المواءمات الفاعلة في سبيل توجيهها.
كاتب المقال.. محمد هاشم البطاط
برز عبد الكريم سروش، وهو أحد الضليعين بالفكر الإسلامي والعائد من لندن بعد حصوله على شهادتين في الكيمياء التحليلية وفلسفة العلم، كأحد أهم المنظّرين الذين يسعون إلى تبيئة بيئة جديدة داخل الحيّز الايراني بدرجة تسهم في إحلال الديمقراطية الليبرالية كبديل عن النظام السياسي الإيراني المتقوم بولايةٍ مطلقةٍ للولي الفقيه.
وقد ألّف سروش دفاعاً عن فكره جملة من المؤلفات من أهمها “نظرية القبض والبسط في الشريعة” و”بسط التجربة النبوية” و”الصراطات المستقيمة”، كما ظهر محمد مجتهد شبستري بزيّه الديني، كأحد المنظّرين الساعين إلى تقزيم دور رجال الدين في الحياة السياسية، والتأسيس لنظرية حقوقية جديدة تعلن وصالها بما يُنَظّر له الغربيون في مجال حقوق الانسان.
ولم يبتعد مصطفى مليكان، الاستاذ في الحوزة والجامعة، عن تقديم قراءات جديدة للكثير من المسائل الجدلية في الساحة الثقافية الايرانية، كما برز يوسف صانعي بوصفه من الفقهاء الذي يسعون جاهدين إلى تقديم قراءات جديدة للنصوص الفقهية الواردة وتفكيكيها للخروج بفتاوى جديدة تلاءم الحياة بشكل أكبر كما اعتقد هو، ومن جانبه سعى أحمد النراقي، الاستاذ الجامعي ـ وليس رجل الدين صاحب “مستند الشيعة” ـ إلى الكتابة ذوداً عن طروحات سروش …
مع كل الحِراك الفكري الفاعل في الساحة، ظل العقل الجمعي العربي ـ مع وجود استثناءات قليلة ـ يعيش حالة من القطيعة المعرفية مع التسارع الفكري الحاصل في ايران. وما كان على من له باع في اللغة الفارسية إلا أن يقوم بنقل وإعادة صياغة وتبيئة ما هو موجود هناك وتقديمه الى القارئ العربي حتى يوصف بأنه “مفكر.
إن قضية القبانجي لا تعدو كونها تجلياً لهذه العقلية القطيعية مع ما يقدمه الإيرانيون من منجزات معرفية، عشنا نحن القراء العرب بعيداً عنها تماشياً مع ترويجات “إيرانوفوبيا” و تهويلاتها، فهو بدأ مشروعاً بنقل المؤلفات التي كتبها سروش ورفاقه إلى القراء العرب، لا سيما العراقيين، ومن ثم عمد إلى إعادة صياغة بعض الأفكار الواردة في مؤلفات أولئك وبحوثهم وتقديمها في كتبٍ له، من قبيل “الاسلام المدني” وغيره.
ولما كان القراء العرب يعيشون الرهبة من قراءة كتاب لمؤلف إيراني، عمدوا الى قراءة كتب القبانجي، فجعلوا منه مفكراً أوحداً، وتنويرياً كبيراً من جيل الطهطاوي والكواكبي !! بيد أن جلّ ما قام به هو إعادة تقديم مصاديق جديدة للمفاهيم التي قدمها المفكرون الايرانيون، فعندما يثبت أحد ما وجود الزوجية في الاعداد، ويطرح الاثنين بوصفها عدداً زوجياً، فهذا يثبت أنه مفكر بلا شك، لكن عندما يأتي شخص آخر ويقدم الاربعة بوصفها زوجاً، فهذا ليس بمفكر، لانه لم يفعل سوى أن أشار إلى مصداق جديد لمفهوم الزوجية. هذا هو كل ما يقدمه القبانجي على الساحة الفكرية الراهنة، مع وجود فارق جوهري هو انه لم يكُفَ يتجاوز ويتطاول على النظام السياسي الايراني، مع أنه لا يحق له التدخل في شأن الدول الأخرى، مثلما هو يرفض من إيران أن تتدخل في شأن العراق.
لست مع اعتقال القبانجي، وللآن ما زالت تشوب الأسباب الدافعة إلى اعتقاله الكثير من الظنون، فهو يقول كلاماً يخالف ما صرح به الإيرانيون.
إن المهم بالنسبة إليّ هو الزامية عدم الانخداع بالتهويلات الإعلانية التي يتم وفقها تسويق ما يكتبه القابنجي بوصفه منجزاً معرفياً يكشف عن بروز مفكر إسلامي تنويري جديد. إن الرجل يقوم بتوظيف عدم اطلاع القراء العرب على الحراك الفكري في الساحة الايرانية، وتقديمه إلى قرّائه وكأنه هو الذي اكتشف كل هذه المقولات!! ليس من حق أحد أن يبخس الآخرين حقهم، ولا أن يقزّم منجزاتهم، لكن أيضاً من حق القرّاء أن يقوموا بتقييم ما يقدمه الكتاب، وأن يشخّصوا مكامن القوة والضعف فيما يطرحونه.
بدأ الكثير من القرّاء العرب يغيرون قناعاتهم بشخص القبانجي بعد التواصل مع مجلة “نصوص معاصرة” التي تصدر في بيروت، ويئس تحريرها الشيخ حيدر حب الله، إذ أنها متخصصة بنقل ما يطرحه المفكرون الإيرانيون للقراء العرب، فاكتشف الكثير من القرّاء أن طروحات القبانجي لا تعدو كونها اجتراراً معرفياً لما يقدمه الاخرون، واقتياتاً فكرياً على قطيعة بين لغتين لطالما أسهمتا بتقدم الفكر الاسلامي ورفد منابعه الحضارية.
أعتقد أن فتح ملف القبانجي مرة أخرى يلقي علينا مزيداً من الحرص على عدم الاعتكاز على مقولة هجر المؤلفات التي يكتبها الايرانيون، وأن نكون على قدر كبير من الحيادية المعرفية في البحث عن الحقيقة مهما كانت جنسية حاملها.
*أستاذ جامعي ـ طالب دكتوراه علوم سياسية