أبعد من سفينة.. أكبر من باخرة
موقع قناة الميادين-
علي فواز:
القرار بالمعنى السياسي والاستراتيجي أكبر من باخرة. هو حدث سيرافق السفينة بعد انطلاقها، ولن يتوقف بعد وصولها.
الخطوة التي أعلنها السيد حسن نصر الله يوم العاشر من محرم سيكون لها مفاعيلها على أكثر من مستوى، وفي أكثر من ملف. مفاعيل بدأت بوادرها تظهر في الصحافة الإسرائيلية وفي مواقف مسؤولين لبنانيين، إضافة إلى سلوكيات جديدة عبّرت عنها على وجه السرعة السفيرة الأميركية في لبنان.
الإعلان عن قرب انطلاق عملية استيراد الوقود من إيران على لسان الأمين العام لحزب الله هو أكثر من مجرد عملية لوجستية وكسر للحصار، ويتجاوز بتعبيراته فشل سياسة التجويع والتركيع والابتزاز وتخيير اللبنانيين على لسان أكثر من مسؤول أميركي بين مواجهة المقاومة أو العقوبات الجماعية.
بالمعنى السياسي والاستراتيجي، هو أكبر من باخرة. هذا الإعلان كان بمثابة افتتاح لحدث إعلامي ضخم منذ لحظة الإفصاح عنه. حدث سيرافق السفينة بعد انطلاقها، ولن يتوقف بعد وصولها. لم يكن لهذا الحدث أن يكتسب هذا الزخم لو لم تكن السفينة محمّلة بدلالات يصعب حصرها في جانب واحد. يمكن القول إن هذه الخطوة أصابت أكثر من عصفور بحجر واحد.
خطورة الخطوة غير المسبوقة عكستها مسارعة السفيرة الأميركية في بيروت إلى التواصل مع رئيس الجمهورية ميشال عون بعدما كانت التقته منذ أيام. أفرجت دوروثي شيا فجأة عن إمكانية استجرار الطاقة والغاز من الأردن عبر سوريا (كاسرة بذلك قيود قانون قيصر!)، لتحفل بعدها وسائل التواصل الاجتماعي بأسئلة حول سبب تأخر الخطوة الأميركية، فيما البلد يغرق في العتمة والعوز. أبواب الانفراج فُتحت دفعة واحدة بعد إعلان السيّد نصر الله، ليتوالى بعدها إعلان مصرف لبنان عن توفر الدولارات بسعر المنصة لمستوردي النفط، وإعلان بعض الشركات عن توفر الوقود خلال وقت قريب.
بدت هذه المواقف والتطورات كأنها مصداق على سردية حزب الله حول وقوف الولايات المتحدة خلف ما كل يجري منذ البداية. مواقف عززت صواب مقاربته للأزمة من زاوية الحرب الاقتصادية التي لا مكان فيها للصدف، بحسب تعبير السيد نصرالله. بدا رد فعل السفيرة شيا مُرتبكاًَ، وفق وصف بعض المتابعين، إلا أنه ارتباك لم يقتصر عليها، بل انسحب أيضاً على حلفاء أميركا في الداخل اللبناني. هؤلاء بانت حججهم باهتة وضعيفة في ظل حال التردي الذي يعانيه اللبنانيون، فأي عقوبات يتم التهويل بها فيما يقبع اللبنانيون في أسفل درك الأزمة؟
كان لافتاً على هذا الصعيد تعليق النائب سيزار معلوف (عن كتلة القوات اللبنانية التابعة لسمير جعجع) على مبادرة شيا، إذ قال: “صح النوم، تأخرت كثيراً، فلبنان يغرق منذ زمن”، مضيفاً: “في هذه الأزمة، يتبين من هو العدو ومن هو الصديق للبنان، فالصديق هو من يساعد بلدنا”، سائلاً: “إذا باعنا حلفاؤنا العرب والغرب، فهل ممنوع علينا قبول مساعدات من إيران؟”.
تصريحات تعبّر عن مستوى التفاعل الشعبي في لبنان إزاء الحدث، وتعطي مؤشراً على مدى تبني مبادرة حزب الله على مستوى كل لبنان بمختلف أطيافه ومناطقه.
على مستوى الداخل اللبناني، سيفرض الحدث نفسه على الأجندة السياسية للأسابيع المقبلة، ومعه جملة نقاط يُتوقع أن يحصدها حزب الله لتضاف إلى رصيده الشعبي. ليس بعيداً تبعاً لذلك أن ينقلب السحر على الساحر، بعدما ردّ حزب الله كرة النار إلى أيدي أعدائه، محوّلاً الحصار عليه وعلى الشعب اللبناني إلى خطوة متقدمة في رسم التوازنات الإقليمية وفي معادلات الردع.
ربما هذا ما تخوفت منه “إسرائيل” قبل أسابيع عندما حذّر بعض كتّابها وباحثيها من تحويل الحرب الاقتصادية على لبنان من فرصة لـ”إسرائيل” إلى عبء عليها. لعلّ أبلغ تعبير على ذلك ما ورد في موقع “Israel defense” الذي أشار إلى أن “إسرائيل تواجه مأزقاً في التعامل مع قضية البواخر القادمة إلى لبنان، فإن اعترضتها فستولد نقمة لدى الشعب اللبناني الذي سيدعم الرد من قبل حزب الله الذي ستزداد شرعيته، وإن لم تعترضها فسيكون حزب الله منقذاً للبنان أيضاً”.
هذا المعطى على أهميته لا يغيّب البعد الاستراتيجي المهم والبارز لما حدث. هذا البعد عبّرت عنه أيضاً الصحافة الإسرائيلية بالقول إن حزب الله يوسّع قواعد الردع لتشمل السفن. تحضر هنا الحرب الكونية التي شنت ولا تزال منذ 10 سنوات على سوريا، والتي كان أحد أبرز أهدافها قطع خطوط التواصل من طهران، وصولاً إلى بيروت، مروراً بالعراق وسوريا. خيضت على مدى سنوات معارك شرسة وصعبة، قبل أن يتمكن حلف المقاومة من إعادة وصل الطريق البري بين طهران وجوارها الطبيعي عبر معبر البوكمال.
اليوم، تضيف المقاومة خطاً بحرياً علنياً إلى الخطوط الجوية والبرية المفتوحة مع إيران. على الأرجح، لم تكن لتتمكن من ذلك لولا قرار الحصار المطبق على لبنان، الأمر الذي أعطى شرعية شعبية لمثل هذه الخطوة التي بات يُنظر إليها على نطاق أوسع من بيئة المقاومة باعتبارها خطوة وطنية، بما تنطوي عليه من تأييد شعبي.
لا تنتهي مفاعيل الخطوة الاستراتيجية عند هذا الحد، فهي تمثّل أولى الخطوات في مسار التوجه شرقاً بعيداً من إملاءات الولايات المتحدة وشروطها. هذا الخيار باتت تتيحه حالة الضرورة القصوى التي فرضتها الولايات المتحدة نفسها، وباتت السفن القادمة من إيران تمثّل نموذجاً عملياً قابلاً للاستنساخ والتطبيق في ملفات أخرى ومع دول أخرى، على رأسها الصين وروسيا، الأمر الذي من شأنه أن يفتح الخيارات وطاقة الأمل أمام الشعب اللبناني.
تستمد الخطوة زخمها من كونها تأتي في ذروة الحدث الأفغاني بدلالاته ومفاعليه، فأن يتمكن حزب الله وحده (ليس الجمهورية الإيرانية، ولا الدولة السورية، بل حزب لبناني) من تحدي الهيبة الأميركية والإسرائيلية في عرض البحر، فإن ذلك ليس تفصيلاً عابراً في لحظة دولية وإقليمية لا تغيب عنها مشهدية الانسحاب الأميركي من أفغانستان.
لا شكّ في أن حزب الله درس خياره جيداً قبل الإعلان عن الخطوة، وهو بذلك أعدّ سيناريوهات على ردود أفعال إسرائيلية وأميركية محتملة. من هنا، جاء تحذير السيد نصر الله من “ألا يجربنا أحد”، وبأن السفينة أرض لبنانية، أي تنطبق عليها قواعد الاشتباك المعمول بها بين الاحتلال والمقاومة.
مكاسب بالجملة أنتجتها سياسة الحصار الأميركية التي دفعت حزب الله إلى تفعيل خيار الاستيراد من إيران كفعل مقاوم ودفاعاً عن الشعب اللبناني، لكن ما يثير السؤال والغرابة هنا هو فحوى التقديرات الأميركية والإسرائيلية السابقة على الحرب الاقتصادية، فهل كانت أجهزة الاستخبارات في تل أبيب وواشنطن تقدّر مثل هذا السيناريو أم أنها فوجئت بخطوة حزب الله؟ ولا سيما أنها خطوة جرى التمهيد لها على لسان أمينه العام في أكثر من مناسبة ومنذ مدة.
في حال بُنيت التقديرات الإسرائيلية على أنه لن يتم تفعيل الخطوط البحرية، تكون “إسرائيل” قد أضافت فشلاً جديداً إلى تقديراتها الاستخبارية، بعدما فوجئت بمبادرة الفلسطينيين في معركة “سيف القدس” ومبادرة المقاومة اللبنانية في الرد على غاراتها في عمق جنوب لبنان بصلية من الصواريخ الشهر الماضي.
أما إذا كان ما يحصل ضمن تقديراتها، فإن هذا الأمر يفتح الباب على أكثر من احتمال وسيناريو، وسننتظر لنرى إن كان سيتم اعتراض السفينة، وبأية طريقة، لكن في حال قدّر للسفينة أن تصل، فإن هذا يعني حتماً نصراً جديداً وكبيراً للمقاومة، وتكريساً لخط تواصل جديد بين بيروت وطهران، وهو خط يعكس توازن القوى ومعادلات الردع في عصر أفول وانحسار الهيمنة الأميركية وتراجع هيبتها، الأمر الذي يضع حلفاء أميركا في المنطقة من “إسرائيل” إلى بعض الدول الخليجية، أمام امتحان جديد يأتي في خضم الدرس الأفغاني.
حتى الآن، لم يعلن حزب الله بعد عن التفاصيل اللوجستية المتعلقة بكيفية إدخال المواد المستوردة من إيران إلى لبنان. هل يتم إفراغ الشحنة في البحر أم تصل الشواطئ اللبنانية أم تتجه إلى سوريا ومنها إلى لبنان؟
ستبقى هذه الأسئلة حاضرة في الأيام المقبلة، وستشكل مواد إعلامية تضاف إلى مفاعيل الحدث، لتبقي جذوته مشتعلة. بهذا القرار، أصاب حزب الله خصومه في الداخل والخارج بإحراج شديد، وانتقل إلى موقع المبادرة التي لم يعد مستبعداً معها أن تسقط مفاعيل البروباغندا والحرب الناعمة التي تشن ضده في السنوات والأشهر الأخيرة على وجه الخصوص.
لقد قدّم الحزب للشعب اللبناني مصداقاً ودليلاً على رؤيته السياسية في إطار صراعه مع أميركا و”إسرائيل”، كما أعطى مثالاً حسياً وملموساً عن مكمن مصالح لبنان واللبنانيين، بعدما ألقى حجته متحدياً خصومه في الداخل بأن يستثمروا علاقاتهم لمساعدة لبنان من دون أن يلقى اللبنانيون جواباً.