أبعاد الخلاف الفرنسي – الأمريكي.. والعبرة للأتباع
موقع العهد الإخباري-
إيهاب شوقي:
في خلاف علني حاد ونادر بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، بدت فيه الأوضاع وكأنها خلاف اقتصادي نتج عنه توتر ومواقف غاضبة متمثلة في استدعاء للسفراء، يتظهّر أن جوهر الأمر أعمق وله تداعيات أخطر قد لا تشكل تغيرات درامية للتو وفي الحاضر، ولكنها قد تشكل تغيرات جذرية في المستقبل القريب، كما أنها تلقي بعبرة مضافة لحلفاء أمريكا وتوابعها.
وهنا نحن بحاجة لمزيد من التفصيل حول ثلاثة محاور.
الأول: لماذا يشكل الخلاف انعكاسًا لأوضاع خطيرة قد تتخطى نطاق الخلاف الاقتصادي؟
لا يقتصر الخلاف على مظاهره الشكلية التي أعربت فيها الولايات المتحدة عن رغبتها في إصلاح العلاقات مع فرنسا، وقالت إنها تتخذ إجراءات في هذا الإطار، بعد استدعاء باريس سفيريها من الولايات المتحدة وأستراليا، ردا على اتفاقية تحالف أمني بينهما أضاعت على باريس عقدا لتصنيع غواصات لصالح أستراليا.
ولا يقتصر الأمر على الاتفاق الجديد الذي سيحصل بموجبه الجيش الأسترالي على ثماني غواصات على الأقل تعمل بالطاقة النووية من أمريكا بدلا من الغواصات الفرنسية.
ولا تقتصر الخسائر الفرنسية على العقد الموقع عام 2016، بقيمة 66 مليار دولار أمريكي مع مجموعة “نافال” غروب المملوكة للدولة الفرنسية، لبناء 12 غواصة تقليدية تعمل بالديزل والكهرباء تحت اسم “أتاك كلاس”.
ولكن للأمور دلالات وتداعيات أخطر ويمكن رصدها كما يلي:
1- دخول بريطانيا كطرف مع أمريكا. أدت الاتفاقية التي تضم بريطانيا أيضًا إلى إلغاء أستراليا بشكل مفاجئ عقدها مع فرنسا لشراء الغواصات.
وقد وصف وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الطريقة التي عاملت بها المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا فرنسا بشأن الاتفاقية الأمنية الثلاثية الجديدة، وإلغاء صفقة الغواصات، بأنها “طعنة في الظهر” لبلاده.
وهو ما يشي أن هناك تكتلا من النوع الانجلو ساكسوني تمت التضحية عبره بفرنسا، وأن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي كان مقدمة لذلك، وأن وضع فرنسا في القارة محاط بالخطر من كل اتجاه بين حلفاء الأمس روسيا وبريطانيا، واعداء الأمس في المانيا، وان ما يحدث هو بمثابة انكشاف استراتيجي لفرنسا، يشبه في جوانب منه وضع بولندا في الحرب العالمية الثانية والتي تم غزوها بعد تخلي حلفائها عنها ووقوعها ضحية اتفاقيات وتوازنات، ولكن بشكل اقتصادي في حالة فرنسا الراهنة أكثر من الشكل العسكري!
2- ترى فرنسا أنها قدمت لأمريكا الكثير من حيث الانخراط معها في معارك سياسية واقتصادية تسببت في توتر علاقتها بروسيا والصين وشلت حركتها في التنوع، وانها لم تقبض ثمن ذلك وتجني ثمارا مقابلة، وهو ما قد يتسبب في تناقضات في كثير من الملفات ومحاولات لعمل التفافات تدريجية تعطي مزيدا من الحرية لفرنسا في حفظ مصالحها دون الصدام الكبير مع امريكا في لحظة لا تمتلك بها فرنسا أوراقًا القوة الكافية، ولكن يمكن اعتبار هذه اللحظة تأريخًا لانفصال فرنسي – أمريكي حتى لو لم ينعكس على ملفات كبرى بشكل سريع ومعلن.
3- التنافس الفرنسي الالماني. وهنا يمكن الاسترشاد بما رصده المؤلف جان فرانسوا سوسبيل في كتابه “انحطاط الإمبراطورية الأوروبية”، في سياق حديثه عن المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي الاسبق نيكولا ساركوزي عام 2007، والمتعلقة بمشروع “الاتحاد المتوسطي” حيث قال إن هذا المشروع الذي تتزعمه فرنسا والذي قد يجعل منها زعيمة للمنطقة، اصطدم بمعارضة شرسة من قبل المستشارة الألمانية انجيلا ميركل.
بل وقامت ألمانيا بتهديد فرنسا أنها قد تقوم بإطلاق مبادرة لتأسيس “اتحاد أوروبا الشرقية” التي تضم داخلها أوكرانيا، وبالطبع، سيتم استثناء فرنسا منها. وكان ذلك يعني بوضوح تأكيد سيطرة ألمانيا على ذلك “الشرق” الأوروبي. وأمام ذلك الموقف المتشدد تمّت العودة عملياً إلى إطار “مسيرة برشلونة” التي كان قد أسس لها الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك عام 1995 والتي يمثل الاتحاد الأوروبي طرفاً فيها.
الثاني: لماذا لا تبدو هناك تغييرات جذرية متوقعة للتو بل من المتوقع أن تكون هناك تغيرات جوهرية في المستقبل؟
التنافس التاريخي الأوروبي والذي تطور لصراع أدى لحربين عالميتين، لا تزال آثاره وعوامله باقية حتى الان. وشكّل “الناتو” طمأنة نسبية لأوروبا الغربية، وفشلت معه محاولات تكوين نظام أمني جماعي أوروبي أو جيش أوروبي موحد، وهو ما يجعل فرنسا عاجزة عن اتخاذ موقف حاد تجاه “الناتو” لعدم وجود بدائل عملية، إلا أن التحدي التاريخي قد يجبر فرنسا على الاعداد الجاد لبدائل مستقبلية ولكنها تتطلب صياغة جديدة لاستراتيجية الامن القومي وتهديداته في ضوء التراكمات التاريخية واليقين من أن الغدر الامريكي لا تمثله ادارة بعينها مثل ادارة ترامب، بل هو سمة مميزة لامريكا ودولتها العميقة.
الثالث: ما هي العبرة المضافة لحلفاء أمريكا عامة وأتباعها في المنطقة على وجه الخصوص؟
لا يمكننا بالطبع مقارنة العلاقات الأمريكية – الفرنسية بعلاقة امريكا بتوابعها في المنطقة، حيث هناك علاقة تحالف تحمل قدرًا من الندية، بينما العلاقات بتوابع المنطقة أقرب للمقايضة أو الضرائب المدفوعة مقابل حماية العروش وتغطيتها سياسيًا، ومع الدرس الافغاني والذي شهد تخليا والقاء للحلفاء في مصائر مجهولة عسكريا، يضاف هنا درس أعمق، وهو التخلي عن شركاء والقاؤهم في مصائر مجهولة اقتصاديا.
وبلحاظ أن العامل الاقتصادي للدول الاوروبية وفي قارة بهذا التاريخ وهذا الصراع، لا يقل خطرا عن الانكشاف الاستراتيجي العسكري، فإن على التوابع ولا سيما في الخليج أن يتأملوا مصائرهم ومصائر خدمتهم لدولة مثل امريكا تحمل كل هذا القدر من الخيانة والغدر والخسة.
وكما يبدو من بعض التقارير، أن هناك توجهات لتعويض الانسحاب الامريكي من المنطقة بالتحالف مع العدو الصهيوني، فلعل مصائرهم قد تكون أكثر سوءا، حيث الارتباط بكيان زائل لا محالة، أكثر خطورة وأكثر دمارا بتحولهم لجبهة حربية مباشرة عند انطلاق حرب وجودية مؤجلة وقادمة وحتمية لا محالة مع هذا الكيان.