يوم قُطع رأس عبد الله… وباد مُلك آل سعود
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
جعفر البكلي:
«لقد رأيتُ بأم عيني إعدام عبد الله ملك السعوديين الوهابيين، بقطع الرأس في ساحة آيا صوفيا، مقابل قصر حدائق السرايا، بعدما طيف به ذليلاً في شوارع إسطنبول ثلاثة أيام. ولقد وضع الأتراك رأس عبد الله آل سعود بعد قطعه في فوهة مدفع، ثمّ أشعلوا باروده، فانقذف الرأس بعدما صار هشيماً. وأما جسد ابن سعود، فقد وضعوه على خازوق، ثمّ ستروه بقطعة قماش كُـتبَ عليها «تركيا فوق الجميع». وأخرجوا قلبه من صدره، وثبـتوا بخنجر غرز في قلبه المنزوع، ورقة كانت تتضمن حكم الإعدام بحقه».
هذا ما كتبه الرّحالة روتير، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1818م، في كتابه «رحلة من تبليسي إلى إسطنبول»، وهو يصف مشهد إعدام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز آخر حكام الدولة السعودية الأولى في الجزيرة العربية.
لكن كيف بدأت قصة دولة آل سعود، ثمّ كيف انتهت فصولها الأولى تلك النهاية المفجعة؟
نشوء الوهابية، وصعود نجم آل سعود، وقصة ابن عبد الوهاب
لم تكن بَوادي نجد الصحراوية تعرفُ بشيء مميّز قبل ظهور محمد بن عبد الوهاب، وتحالفه الشخصي، ثم تحالف أسرته آل الشيخ من بعده، مع سلالة آل سعود، ونشأة جيل من الوهابيين الدمويين الذين أثاروا الخراب والدمار والموت حيثما حلوا ووصلوا.
لقد كان أهل نجد في معظمهم مسلمين يتبعون المذهب الحنبلي أكثر مذاهب الإسلام تقيّداً في تغليبه النقل على العقل، والأكثر تشدداً في اتّباعه أقوال السلف وأفعالهم والالتزام بمناهج عيشهم الماضية، والأكثر تزمتاً في أخذه بحرفية النصّ الديني وظاهر ألفاظه، واجتناب تأويله أو التفكير في رحاب معانيه أو التدبر في روحه… ولعلّ المذهب الحنبلي المتشدد كان ملائماً للطبيعة الصحراوية القاسية المتقشفة، التي كان يعيش فيها النجديون! لكن ظهور الشيخ ابن عبد الوهاب بينهم في أواسط القرن الثامن عشر بدّل حياتهم الرعوية البسيطة الساذجة لعنةً، وأدخل عليهم وعلى شعوب حولهم نكالاً، لعله ما زال متواصلاً إلى يومنا هذا!
ولد محمد بن عبد الوهاب عام 1703، في قرية العيينة بنجد. وكان أبوه شيخاً حنبلياً يفتي لحاكم العيينة، ويمارس مهمات القضاء بين الناس. وحفظ الفتى القرآن وفهمه على حرفيته، ولقد كان شديد التزمت في وجوب تطبيق حدود الشريعة، ثمّ تأثر بآراء ابن تيمية و تلميذه ابن القيم في وجوب «محاربة أهل الضلال والبدع».
ثمّ ورث ابن عبد الوهاب عن والده بعد وفاته منصبه في القضاء والافتاء. فنشط في الدعوة إلى وجوب تطهير المجتمع من المظاهر الشركية، وعَدّ الأضرحة أوثاناً يعبدها الناس من دون الله. واستغل منصبه كقاض ليأمر بهدم تلك الأضرحة وشواهد القبور والقباب والمقامات والزوايا التي كان يزورها الناس، أو يتبركون بأصحابها. ثمّ راح ابن عبد الوهاب يطبق الحدود بحذافيرها على مجتمع بدوي رعوي فقير متخلف، قد شاعت فيه ظواهر الغزو والاغارة والسرقة، وتفشى فيه الجهل والقتل والزنا والكذب، وما برح أهله يؤمنون بالسحر والكرامات والتبرك بالأموات… فراح الشيخ يهدم كل أثر من قبور الجدود، ويقطع يد كل من سرق، ويرجم كل من زنت، ويجلد كل من زاروا ضريحا.ً.. حتى ضجّ به الناس، ولم يعودوا يحتملون منه أمراً ولا نهياً. فعزله عثمان بن معمر حاكم العيينة عن منصبه، ونفاه من البلدة.
هاجر ابن عبد الوهاب إلى الدرعية مركز آل سعود، وزعيمهم وقتها هو الشيخ محمد بن سعود. وكانت الدرعية قرية تقع وسط واحة نخيل بوادي حنيفة على بعد بضعة أميال شمال الرياض. واستقبل الشيخُ ابن سعود الشيخَ ابن عبد الوهاب بحفاوة. وآمن بدعوته في وجوب قتال أهل الضلال، والقضاء على البدع الشركية، والدعوة إلى الدين الصحيح، ونشر ذلك في أرجاء الجزيرة العربية. فمن دخل في الدعوة طوعاً كان بها، وإلاّ فإعمال السيف، وضرب الرقاب، والقتال «حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله».
وهكذا أصبح محمد بن عبد الوهاب مفتياً للدرعية، عام 1744. وأرسيَ الحلف العظيم بين آل سعود والوهابيين. وأول فتوى لابن عبد الوهاب كانت تحريم الغناء والعزف والرقص لأنها من الفسوق، ثمّ جرت تسوية الأضرحة بالأرض. وكان الشيخ يأمر الناس بأن يصلحوا أنفسهم فإن صلحتْ عاد فأمَرَهُم بتطهير بيوتهم من الرجس، وبتربية أبنائهم على الإسلام إن بالإقناع أو بالقمع. ثمّ بعدئذ أفتى ابن عبد الوهاب لابن سعود بإعلان الجهاد لفرض شريعة الله في الأرض.
بعد مدة من الدعوة، توافر للوهابيين عصبة قوية وأنصار مؤمنون بمعتقدهم، ومستعدون لنشره بحدّ السيف. فقويت بهم شوكة آل سعود وبدأوا بالتحرك وغزو من هم حولهم من البلاد. فهاجموا أوّلاً بلدة الرياض القريبة من الدرعية، ثم سعوا إلى إخضاع قرى نجد حتى وصلوا ضفة الخليج العربي. فدخل الناس في الدعوة الوهابية حبا أو كرها.
وبعدما وطّد آل سعود حكمهم في نجد، بدأوا يوجّهون أنظارهم إلى الأقاليم الأخرى في المشرق العربي. وعام 1801، غزا الوهابيون يقودهم السعوديون مراكز التشيّع في جنوب العراق، حتى وصلوا كربلاء، فأعملوا في رقاب أهلها السيف، ولم ينج من مقتلة «المشركين الروافض» (كما سموا الشيعة) إلاّ من هرب! ودخل الوهابيون إلى مقام الإمام الحسين فهدموا القبة فوق ضريحه، ونهبوا ما وجدوه من الذهب والمال والمتاع في المشهد.
وعام 1802، اتجهت جيوش الوهابيين غرباً نحو مراكز التسنن في الحجاز، فبدأوا بغزو مدينة الطائف التي قاومتهم، فكان مصيرها مروّعاً إذ ذبحَ كل فرد ذكر من سكانها، وسُبيت نساؤها. ثمّ دخل الوهابيون مكة المكرمة التي استسلم أهلها، تحت أثر الرعب والهلع اللذين انتاباهم، وكذلك كان الحال في المدينة المنورة! وحين احتل أتباع ابن عبد الوهاب مكة، هدموا المعالم النبوية التاريخية فيها، وعملوا على تدمير كل القباب والأضرحة والمقامات وكل ما وجدوه من آثار قرون من التعمير الاسلامي حول المسجد الحرام. ودمّروا القبة المنصوبة فوق الدار التي ولد فيها النبي (ص)، وقبة فوق دار أبي بكر، وأخرى فوق دار عليّ، وقبة كانت تشير إلى ضريح السيدة خديجة! ثمّ أغار الوهابيون على المدينة فسطوا على الزينة والحلي الموضوعة على قبر الرسول (ص). وأرادوا هدم القبة الخضراء فوق ضريحه، مما أثار سخط أهل الحجاز وهلعهم، فلمّا خشي الوهابيون منهم التمرد والتفلت، تراجعوا عن فكرة هدم القبة النبوية، حتى تسنح فرصة أفضل! ثمّ لما وصلت قوافل الحُجّاج من مصر والشام إلى مكة، قام الوهابيون بطرد الحجيج منها باعتبارهم «مشركين»! وأعلنت البقاع المقدسة إقليماً خاضعاً للدولة السعودية الوهابية الجديدة، ومستقلة عن سلطة الخليفة العثماني في الأستانة.
استغرق تمدّد الدولة السعودية _ الوهابية الأولى أكثر من ستين عاماً. وتوفي في هذه الأثناء محمد بن سعود وكذلك محمد بن عبد الوهاب، فأكمل أبناؤهم وأتباعهم تلك الشراكة التي كان آباؤهم قد أرسوا قواعدها. وكان جيش نجد الملهم بالتعاليم الوهابية، بقيادة آل سعود شديد البأس والشراسة، وكان لا ينفك يغير على تخوم العراق والشام واليمن وعمان والبحرين.
نهاية آل سعود الوهابيين الدموية
اشتدّ غضب «حامي الحرمين الشريفين» السلطان العثماني محمود الثاني، حين تناهى إليه أن الوهابيين قد نهبوا مكة المكرمة والمدينة المنورة ومنعوا كثيراً من الحجاج («المشركين») من أداء فريضة الحج. فأمر السلطان واليه على مصر محمد علي بمعاقبتهم.
بعث محمد علي بأسطول إلى الحجاز عام 1813. فتمكن الجيش المصري من استعادة مكة والمدينة بسهولة، لكن المصريين فشلوا في التقدم إلى صحارى نجد القاحلة المترامية الأطراف. ودأب الوهابيون على الاغارة ليلاً على معسكر المصريين المكشوف في الفلاة، ممّا كان يسبّب نزفاً لهم في العديد والعتاد. ثمّ بعث محمد علي حملات أخرى للقضاء المبرم على الوهابيين، لكن من دون جدوى. وكان ذلك الفشل في القضاء على «فتنة شراذم بدو الصحراء» يضايق محمد علي، وخصوصاً مع توالي سؤال السلطان عن نتيجة ما أنجزه، حتى توصل الوالي الألباني لمصر إلى حلّ لمشكلته. يروي بعض المؤرخين قصة ظريفة مفادها أنّ محمد علي جمع قيادة أركان جيشه في قصره بالقاهرة. وأخذ يتدارس معهم أسباب فشل الحملات العسكرية المصرية على نجد. وراح القادة يتلاومون فيما بينهم ويلقون التهم على بعضهم بعضاً، والوالي لا ينبس ببنت شفة، حتى انتهوا إلى أن الموضوع يتعلق بصعوبة الامداد وسوء الطرق والمواصلات في صحارى شاسعة، وبلؤم البدو وطريقة الكر والفر في قتالهم، وبالعصبيات القبلية التي تربطهم ببعضهم بعضاً.
عند ذلك أخذ محمد علي تفاحة ووضعها وسط سجادة كبيرة جداً تغطي أرضية القاعة الواسعة. ثمّ تأمّل في وجوههم، وقال: «إن الإمساك بالوهابيين يشبه الامساك بهذه التفاحة وسط هذه السجادة، إني أريد منكم أن تلتقطوا التفاحة في الوسط، لكن دون أن تطأ أقدامكم السجادة!». وحاول القادة العسكريون تنفيذ أمر الوالي من دون أن تطأ أقدامهم سجادته، لكنهم فشلوا. وكان إبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي ينظر إليهم، وهو يجلس بجانب أبيه. فلمّا يئسوا، استأذن هو والده بالسماح له بأن يحاول، ثمّ جلس القرفصاء عند طرف السجادة، وبدأ يلفها إلى أن وصل إلى وسطها، واستطاع أن يمد يده ويلتقط التفاحة بكل سهولة.
قاد إبراهيم باشا الجيش المصري بنفسه في موفى عام 1816، نحو نجد. وبدأ يلف سجادة الصحراء متكئاً على رنين النقود الذهبية لرشوة القبائل الطامعة وفك عصبياتها، ومعتمداً على ضراوة مدافعه المدمّرة لردع القبائل المشاكسة وسحق معنوياتها… وانضمت إليه قبائل عتيبة وحرب ومطير طامعة في البنادق المصرية، وفي المال الوفير. ثمّ بدأت القبائل الأخرى تنحو منحى القبائل الأولى، وتتخلى الواحدة تلو الأخرى عن آل سعود وتنضمّ إلى إبراهيم باشا.
تقدم الجيش المصري في الفيافي ببطء، لكن بثبات. وبعد أشهر من الرشى لقادة الأعراب، وصل إبراهيم باشا إلى أسوار الدرعية عاصمة آل سعود. وكان قد جلب معه مهندساً فرنسياً ومجموعة من المدافع الأوروبية الفتاكة لمهاجمة أسوار البلدة المبنية من الطين. وكانت المفاجأة أنّ وهابيي الدرعية قاوموا ببسالة شديدة، برغم القصف الهائل الذي سلّط عليهم، ولم يستسلموا أبداً، بل إنهم راحوا بسيوفهم يغيرون في الليل والنهار على معسكر المصريين. ولقد بدت حربهم انتحارية، لكن القتال معهم كان مريراً!
وأمر الضباط الأتراك (وكان إبراهيم باشا قد أسند إليهم القيادة الميدانية للجيش) جنودهم بقطع كل نخلة كانت موجودة في وادي حنيفة. أي إنهم قطعوا ما وازى جهد ثلاثين عاماً من الزرع! ثمّ أمر إبراهيم باشا بقطع رأس كل وهابي يقع في الأسر، ثمّ بإرسال رأسه إلى القاهرة. وحين أصبحت سلال الرؤوس ثقيلة جداً على من يحملونها، أمر الباشا بأن يكتفوا بالآذان بدلاً من الرؤوس. وكان والده محمد علي قد وعد بدفع خمس طالرات [قطع نقدية فضية] لقاء كل زوج آذان يُسَلمُ إليه!
وامتدّ القتال أشهراً حتى موفى عام 1817. ثمّ في النهاية قرر الحاكم عبد الله بن سعود بن عبد العزيز آل سعود، الذي كان يعرف بلقب «الإمام»، أن يستسلم بعدما قُضِيَ على معظم مقاتليه، ونفد منه الزاد. ولزيادة إهانة عبد الله والتنكيل بأسرة آل سعود، طلب الضباط الأتراك منه أن يدفع لهم «الكاخور»! (والكاخور كلمة تركية تعني تسليم نساء المهزومين ليمارس الجنود الجنس معهن). وبالرغم من رفض عبد الله هذا الطلب إلّا أن الأتراك افتكوا نساء آل سعود منهم بالقوة والاغتصاب. ولقد كان عقاب إبراهيم باشا للوهابيين شديداً ليس فيه رحمة أو شفقة. وأمر بتدمير الدرعية عاصمة آل سعود بجميع مبانيها تدميراً كاملاً بمدفعيته، ثمّ قطع كل نخلة باقية فيها، وبعدها عادت جيوشه إلى مصر.
وأرسل إبراهيم باشا عبد الله آل سعود إلى القاهرة مكبلاً. ومن هناك أرسله محمد علي إلى السلطان العثماني. وفي الأستانة حاول شيوخ بلاط آل عثمان إغراءه لنبذ معتقداته الوهابية، واعتناق المذهب الحنفي مقابل العفو عنه. وبالرغم من أنّ عبد الله قبل ذلك إلاّ أن الأتراك نكثوا بوعدهم له، وأصروا على قطع رأسه والتشهير به والتمثيل بجثته على خازوق.
وأمّا مفتي السعوديين عميد أسرة آل الشيخ، وحفيد ابن عبد الوهاب، فقد ابتكر الأتراك طريقة جهنمية لتعذيبه، بإجباره على أن يسمع عزف الموسيقى! (وكان المفتي السعودي شديداً عنيفاً في فتاواه الزاجرة التي تحرّم سماع الموسيقى باعتبار أنها صوت إبليس). ولمّا كان المفتي يأبى أن يسمع، ويظل يضع أصابعه في أذنيه كي لا تدخل فيه تلك المعازف الشيطانية، كان الأتراك يزدادون معه عناداً بنفخ مزاميرهم في مسمعيه، فيزيد المفتي الوهابي في إدخال إصبعيه في أذنيه! ثمّ كتّفه الأتراك ليجبروه على سماع الموسيقى. فكان المفتي يتهيّج، ويأخذ في التلوي على الأرض كأن قد صعقه صاعق، أو أصابه صرع، أو أنّ الشيطان يتخبّطه من المسّ! ثمّ خلع الأتراك جميع أسنان فضيلة المفتي بالمطارق والكلّابات، قبل أن يطلقوا النار عليه.
* كاتب عربي