«ويكيليكس» وأحمد منصور
صحيفة السفير اللبنانية ـ
ربيع بركات:
لم يُسلَّم مقدّم البرامج في قناة «الجزيرة» أحمد منصور إلى السلطات المصرية. قالت الأجهزة الحكومية والقضائية في ألمانيا قولها في القضية، وأفرجت عنه بعد يومين من اعتقاله.
في تعقيبها على قرار الإفراج، أعربت وزارة الخارجية الألمانية عن تشكيكها بسلامة الأحكام الصادرة في مصر مؤخراً بحق قيادات «الإخوان» ومناصريهم، ومنصور من بينهم. و «التشكيك بسلامة الأحكام»، مجرّد تعبيرٍ دمِثٍ أملته مراعاة الأصول الديبلوماسية. ولو لم تكن الخارجية الألمانية محكومة بأصول كهذه، لقالت، على الأرجح، أكثر من ذلك بكثير.
تسليم منصور كان سيجعل السلطات الألمانية «شريكة في الجريمة»، كما أفاد بيان منظمة «مراسلون بلا حدود». على أن الجريمة هنا تتصل بتسفيه المنطق السليم أولاً وقبل كل شيء. فالإعلامي محكومٌ بالسجن في مصر لخمسة عشر عاماً، بتهمة «تعذيب محامٍ في ميدان التحرير في العام 2011». وهذه تهمة تشبه في هزليتها كثيراً مما اعتدنا عليه في العالم العربي على مدى عقود، حيث الأجهزة القضائية أدواتٌ لتحقيق غايات سياسية في الغالب، من غير اهتمامٍ حتى بتأمين «إخراج» يليق بوقارها المفترض، في حين أن العقل يكون أولى الضحايا.. وآخر المُحكّمين. ولولا اقتران التهمة بصفة تنفيذية وبسلطاتٍ منفّذة، لأمكن القول إن اعتداءها على العقل يشبه ذاك الناتج من المقابلة الأسطورية للزميل منصور نفسه قبل أسابيع، والتي هدفت الى تجميل زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني وجماعته وأفكاره، بأكثر مما يطيق زعيم التنظيم نفسه.
من حيث المبدأ، لنا القول إن الرغبة بتعميم نماذج سائدة وتعطيل آليات النقد، ليست حكراً على العقل الأمني. فكل ما يُوظّف في صراعٍ على سلطة يُفيد من التعميم والتعطيل المذكورين. والإعلام، شأنه شأن ما يمكن توظيفه أداتياً، لا يشذُّ عن هذا المبدأ.
لا يلغي ذلك حقيقة أن العلاقة بين الأمن والإعلام تقوم تعريفاً على هواجس متبادلة، ولا أنّ تضخّم السلطة وتمركُزها وغياب أدوات المحاسبة في العالم العربي، سمح بإحداث خللٍ فظيعٍ في ميزان القوى لمصلحة الأمن. فالديكتاتوريات تكره الرقابة، والإعلام، كما القضاء، من أدوات هذه الرقابة. ولئن كان تدجين القضاء ممكناً لوجوده في نطاق سلطة الدولة وسيادتها، فإن فعل الأمر نفسه مع وسائل الإعلام يكاد يُقارب الاستحالة، في ظل الثورة الرقمية التي نعيشها والإعلام العابر للحدود.
الأمن، بالمطلق، مدانٌ في أي مواجهة مع الإعلام، وإن تسربل بثوبٍ قضائي خِيطَ على عجل ليناسب أهواء المتنفذين. على أن الإعلام، في المقابل، شريكٌ في لعبة السلطة في عالم اليوم، وفي لعبة الدم في العالم العربي راهناً.
الإشكالية هنا تكمن في أن إدانة العقل الأمني وأساليبه سهلة لدمويّتها الفاقعة والمباشرة أولاً، وليُسر الإحاطة بأدلّتها نسبياً. بينما علاقة الإعلام بالسلطة وتوظيفه في إطار سياساتها، والتي قد تسفر عن دماء وضحايا، مائعة في العادة، وتحتمل التأويل والتبرير غالباً.
في هذا السياق، تؤكد لنا وثائق «ويكيليكس» المسرّبة مؤخراً٬ والتي تُظهر أسلوب تعاطي المملكة العربية السعودية مع وسائل الإعلام العربية عموماً، صعوبة فصل الرأي العام عن المال السائل. هذه، في الأصل، مسلّمة منذ أن تجاوزت المجتمعات مرحلة تبادل السلع، ونشأت فيها الأسواق وراج البيع والشراء. على أن الجديد اليوم يتمثل بعملية تجميل الرشوة، وعمليات التجميل غالباً ما يتكفّل بإنجازها الإعلام.
إحدى مهمّات الإعلام، بمعنى من المعاني، تتمثل بإنجاز تجميل ذاتي مستمر، ينزّه المعنيون به عن الحاجة لرقيب عليهم. هكذا، تصبح الرقابة من صلاحيات الجهاز الإعلامي على كل ما عداه، ولا تستقيمُ لما عدا هذا الجهاز عليه.
على أن ما كشفته الوثائق أيضاً أن ضبط دورِ المال في صناعة الرأي العام ما زالت أسهل في بلادنا بما لا يُقاس مما هي في الغرب، وهذا يعود إلى أن يد الاقتصاد الطولى في المنطقة عائدة إلى ملكيات وإمارات ذات أنظمة ريعية تقوم على شراء الولاءات بالمعنى المباشر، لا المُعقّد أو الموارب.
لقد سمّى نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان العملية التي تُنتجها قوى السوق في المجتمع الرأسمالي الأميركي لناحية تشكيل الرأي العام بـ «صناعة التوافق» manufacturing consent حيث يهضم الإعلام المهيمن أصوات الاعتراض الجذري ويهمّشها، ليُعيد إنتاجها في قوالب تجعل خطابه العام من «البديهيات» التي يقبلها المواطن الأميركي من دون تفكير.
ليس لدينا في هذه المنطقة حد أدنى من التوافق في ما يخص القضايا الكبرى التي يعجّ بها الإقليم٬ مصنّعاً كان أم غير ذلك٬ ولا عندنا مجتمعات حداثية تتحكم فيها قوى السوق كما في الغرب أصلاً.لذلك، فالحل لمعضلة التحكم بالرأي العام بالنسبة لصاحب المال٬ كما تظهره الوثائق المسربة٬ تَمثل بالرشوة بأكثر صورها بدائية٬ في ظل عجز المموّل عن تشكيل لوبيات ضغط ذات برامج جدية.
خلال بضعة أيام، شهدنا نموذجين حول «صناعة التوافق» في العالم العربي. أولهما يعتمد القوة العارية لتحقيق غايته، ويقوده عقلٌ أمني يرغب بتقليص مساحة الاعتراض حتى تضمُر، مع استنفاد حدٍ أدنى من الوقت أو الموارد. وثانيهما تمثّل بانكشاف طبيعة تأثير مال الريع الخليجي على منظومة الإعلام العربي عامة، علماً أن الحديث في هذا الإطار يستوجب الخوض في الفارق بين كل من السعودية وقطر وإيران. ولذلك بحثٌ آخر في مقالة مقبلة.