ورطة سلامة والقصاص الأوروبي
موقع العهد الإخباري-
فاطمة سلامة:
يُحكى بالسوء الكثير عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. يكاد لا يجتمع اثنان يعانيان إلا وسيرة حاكم البنك المركزي بينهما. “كل ما نحن فيه من بلاءات بسبب رياض سلامة” هكذا يقول كثيرون. كلام تُصاحبه أدلة ووثائق عن تورطه في الكثير من ملفات الفساد. وليس جديدًا القول أنّ لهذا الرجل باعًا طويلًا في اختلاس وتبييض الأموال. في ذمته قضايا “ما هبّ ودبّ” من اختلاس وتبييض وسوء إدارة ولا مسؤولية وتركيب “طرابيش” وتزكية السوق السوداء واللعب بالسوق النقدي وغير ذلك الكثير. في الآونة الأخيرة قيل عن مآثره ما لا يُصدّق ونُشرت ارتكاباته بالأرقام من ألفها الى يائها في صحف وقنوات تلفزيونية وإذاعية. تمامًا كما رُفعت في وجهه العديد من الدعاوى القضائية ووُجّهت اليه استدعاءات واستجوابات بالجملة.
كل ذلك حصل ورياض سلامة لا يزال حرًا طليقًا. بالأحرى، لا يزال يحتفظ بمنصبه في الدولة كأعلى سلطة نقدية ومالية ولا يزال الحاكم بأمر المصرف المركزي. أما المفارقة الغريبة العجيبة فتكمن في أنّ هذا الشخص المتهم بسرقة أموال المودعين والعبث بها لا يزال المؤتمن الأول عليها! ولا تزال أمور المواطنين الحياتية رهينة تواقيعه وإمضاءاته. حالة رياض سلامة للأسف بيّنت أن المذكور فوق القانون وفوق القضاء اللبناني. الطريقة التي عامل بها القضاة تُبيّن مدى الاستخفاف الذي يُكنه الرجل حيال القضاء وإيمانه القوي بالخيمة الزرقاء المُفردة فوق رأسه.
منذ عام 1993 أي ما يقارب الثلاثين عامًا يُمسك حاكم البنك المركزي بمفاصل الدولة النقدية والمالية. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم يعمل كفاخوري يضع “اذن الجرة” أينما يحلو له ويرتكب ما يريد. تلك الارتكابات لم تبق محدودة في الداخل اللبناني بل تعدتها الى دول أوروبية كألمانيا وسويسرا وفرنسا. ولأنّ تلك الدول ليست لبنان، بمعنى لا تُعكّر السياسة فيها صفو العمل القضائي يتحرّك وفد من المحقّقين الأوروبيين باتجاه بيروت الشهر الحالي للتحقيق في ارتكابات سلامة على الأرض الأوروبية. فعلى أي أساس يتحرّك الوفد؟ ما صلاحياته؟ هل سيتعامل سلامة مع القضاء الأوروبي بالنفَس ذاته الذي تعامل فيه مع القضاء اللبناني؟ هل سيتمكّن القضاء الخارجي من تحقيق ما عجز عنه القضاء الداخلي؟
الإطار القانوني الراعي للتحقيقات الأوروبية
تُطرح الكثير من الأسئلة في رحاب الزيارة المرتقبة لوفد المحقّقين الأوروبيين. عضو المجلس السّياسي في “التيار الوطني الحرّ” المحامي وديع عقل -وهو المتخصص في ملاحقة الأموال المنهوبة منذ أكثر من 10 سنوات- ويتابع منذ ثلاث سنوات وبشكل مباشر ملف رياض سلامة- يشرح في حديث لموقع “العهد” الإخباري أبعاد زيارة وفد المحقّقين الى لبنان. وفق عقل، يتجسّد الإطار القانوني الراعي للتحقيقات الأوروبية في معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي ينضم اليها لبنان كعضو وتنظّم آليات العمل. كما ثمّة معاهدات مع الاتحاد الأوروبي مرتبطة بالفساد وفي أكثر من قطاع.
القاعدة تقول إنّه عندما ترتبط الجرائم بالفساد وتبييض الأموال تسقط كل الموانع الداخلية حتى ولو وُجدت في قوانين داخلية. تبدو المعاهدة هنا هي الأسمى وتدحض كل ما قيل ويقال من ادعاءات مغرضة حول تدخل أوروبا بالشأن اللبناني. وعليه، حالة رياض سلامة مرتبطة بالفساد مع الإشارة الى أنّ القوانين اللبنانية متآلفة مع معاهدة الأمم المتحدة وتشير الى احترامها.
الأوروبيون وصلوا عام 2022 الى مرحلة متقدّمة
في الشق الداخلي اللبناني، كان المعنيون يلعبون “على رواق” لعدم محاسبة سلامة. لم يحسبوا حسابًا للقصاص الخارجي، يقول عقل. الجهتان المعنيتان بمكافحة الفساد في لبنان؛ هي النيابة العامة المالية وهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان. هاتان الجهتان لم تفعلا شيئًا خلال ثلاث سنوات لمحاسبة المتورطين لا إحالة ولا ادعاء ولا تجميد أموال. هاتان الهيئتان لديهما أكبر صلاحيات في لبنان لكنهما لم يفعلا شيئًا. فهل نقف مكتوفي الأيدي أمام تورط مسؤولين للعظم؟ وفق عقل؛ في لبنان لا يريدون أن يفعلوا شيئًا وما حصل أوروبيًا في غاية الأهمية. الملف الأوروبي في غاية الجدية والحرفية وبعيدًا عن السياسة. الأوروبيون وصلوا عام 2022 الى مرحلة متقدّمة في وقت لم ير فيه اللبنانيون العدالة منذ 30 عامًا.
وفق عقل، المتورطون كثر بدءًا من رياض سلامة ونجله نادي، مرورًا بأخيه رجا وابن شقيقته مروان عيسى الخوري وسكرتيرة الحاكم ماريان الحويك والأوكرانية آنا كوزاكوفا وليس انتهاء بعدد من المديرين. في المرحلة الأولى من التحقيقات الأوروبية تم حجز عقارات وأموال وممتلكات لمتورطين وأينما وجدت عقارات وأموال لسلامة ومتورطين في أوروبا جرى حجزها. في فرنسا مثلًا جرى حجز شقق كثيرة لرياض وأموال نقدية بقيمة 50 مليون يورو لمصرف يعود لأنطون الصحناوي في موناكو.
أما المرحلة الثانية -التي نحن فيها- فستشمل الادعاءات ومذكرات التوقيف، يقول عقل. التحقيق في ملف رياض سلامة متقدم جدًا والاستجوابات ستحصل لرياض ولكثر ممّن شاركوه في الجريمة. وهنا يشير عقل الى أنّ ملف “فوري” السويسري نقطة في بحر ما نملك اليوم وسط تقدم وتطور التحقيقات الأوروبية.
الحبكة الأساسية لقضية سلامة
ومن باب التذكير، يوضح عقل أنّ الحبكة الأساسية لقضية تورط سلامة وآخرين تكمن في الآتي: عمد رياض سلامة ومن لفّ لفه الى التصرف بالأموال التي اقترضها من المصارف لقاء فوائد عالية والتي هي بطبيعة الحال أموال المودعين اللبنانيين، وهذا الأمر بات معروفًا وأرقام الحسابات معروفة. بعدها أجرى سلامة مع متورطين عقودًا وهمية كان يُتوافق عليها من المجلس المركزي والدائرة القانونية حيث كانت تحوّل الأموال عبر مديريات التحويل في مصرف لبنان الى الخارج. على سبيل المثال، عقد وهمي باسم شركة “فوري” لمصلحة أخيه رجا. عقد وهمي آخر لمبان في باريس لمصلحة كوزاكوفا. وهنا يستغرب عقل ازدواجية المعايير لدى سلامة الذي يطلب نحو 20 ورقة لتحويل اعتمادات للفيول، بينما أعطى أخاه 330 مليون دولار دونما طلب أي ورقة.
اختلاس مشدّد وتبييض أموال
ما سبق من جرم قام به سلامة يسمى “الاختلاس المشدّد” وهو الاختلاس الجنائي. هذا الجرم الأول، أما الجرم الثاني فيتثمل في تبييض سلامة لقسم من هذه الأموال في لبنان وآخر في أوروبا. لذلك فإنّ الجانب الألماني مثلًا عندما تحرّك فهو تحرّك لأن ثمة جريمة تببيض أموال ارتكبت على أراضيه، والقاضي الألماني اذا لم يحقق ويعاقب ويحجز ويصادر أموالًا يُعاقب هو على تقصيره. هذا ما يسمى بالشفافية في التعاطي مع الملفات. وعليه، يشدّد عقل على أن الأوروبيين لم يتحركوا كرمى لعيون لبنان بل انطلاقًا من جرائم مرتكبة على أراض أوروبية. وهنا يوضح عقل أنّ الجانب الألماني يراسل النيابة العامة التمييزية في لبنان منذ حوالى عامين. ثمّة عشرات المراسلات المنقولة في هذا الخصوص ووفقًا للقانون، لا كما يصوّره البعض من إعلامين وسياسيين -ارتشوا من سلامة- على أنه تدخل بالشؤون الداخلية. المسألة بكل بساطة من شقين؛ جرم اختلاس في لبنان وتببيض أموال في أوروبا.
الى أين سنصل؟
الى أين سنصل؟. يلفت عقل الى أنّ الهدف الأول والأساسي هو إعادة إحياء نظام العدالة والقصاص من المجرم. نحن اليوم في مجتمع تسوده اللاعدالة حيث لا يعاقب أحد والناس يسألون عن الرأس الكبير في السجن. الهدف الأول اذًا هو إحياء العدالة والقول للناس أن أكبر رأس مالي نقدي في لبنان سيعاقب. للأسف، رغم تورطه لا يزال هذا الرجل يدير البلد ويتحكم بملفاته من كهرباء ودواء وغيرهما.
الهدف الثاني هو تساقط قطع “الدومينو”. سقوط شخص كبير بحجم سلامة يفسح المجال أمام حسابات أخرى والتدقيق في أموال أخرى منهوبة. وفق عقل، ثمة مراسلات قضائية بين المدعي العام في دولة ليختنشتاين والنيابة العامة التمييزية في بيروت حول تسديد إحدى الشركات العائدة لآل ميقاتي مبلغًا بقيمة 14 مليون دولار لشركة وهمية تحت مسمّى “كروسلاند” عائدة لرياض سلامة وهذه واقعة مثبتة. القضاء اللبناني طلب من ليختنشتاين معرفة سبب المبلغ المرسل، ولماذا دفعت شركة ميقاتي لسلامة باسم مستعار وغير مصرّح عنه. وفق عقل، سيتبيّن في التحقيقات أنّ هناك شيئًا في لبنان وعمليات مصرفية سُدّدت بموجبها عمولات. بحسب المتحدّث، سقوط سلامة سيُسقط أشخاصًا غير متوقعين مثل قطع “الدومينو”. وعليه، “إن شاء الله من الآن حتى الربيع يصدر أول ادّعاء في أوروبا”، يختم عقل حديثه.