ورثة الهلال الخصيب سنّستان، شيعستان و…
أبعد من السؤال لماذا، القلق مما بعد.
لن تجف الأقلام في تبيان الأسباب التي أزالت قرناً ومحت حدوداً وفجّرت شعوباً وبعثرت كيانات وهجّرت ملايين وافتتحت قرناً جديداً من الحروب.
ستتوافر كتابات جادة ورصينة تتحدث عن فشل النهضة الأولى وقصور الإصلاح الديني وعجز اكتشاف المعادلة بين الحداثة والأصالة وتدخّل الدين وسطوته، بأشكاله النافرة والنابذة… لن توفر الكتابات والقراءات الغرب وأدواره الاستعمارية وتقسيمات الكيانات على قياسات تؤمن الهيمنة واستدرار الثروات الطبيعية (النفط أولاً) وتوفير الأسواق لسلعه… سيستفيض الكثيرون في قراءة الآثار المدمرة لسايكس ـ بيكو ووعد بلفور ودعم نشوء دولة إسرائيل وحمايتها ودعمها في حروبها وتوسعها… لن تنجو الديكتاتوريات العربية الطاعنة في الاضطهاد والقمع والقتل والفساد من أقلام المتابعين الباحثين عن دورها في انفجار كياناتهم… سيسرد الكتّاب أسباباً شتى لعوامل تضافرت على إفراغ القضايا القومية والإنسانية النبيلة، وعلى تبديد جهود «الحلم العربي» في الوحدة والحرية والعدالة والديموقراطية والتنمية… ولعل الأبرز، بعد كل هذه الأسباب، فتح الجرح الديني، لإظهار الدور النفطي في «تدوير» الآيات سيوفاً وقبائل وعشائر و«إخواناً» و«جهاديين»، مجهّزين بأدوات التخلف الرهيبة، التي تستعيد قروناً من العداوات والمذابح والمجازر من تاريخ دموي، لم يتوقف فيه تذكر أحداث «السقيفة»، و«الطف» و«كربلاء»، ويزيد، والخلافة والإمامة، والولاية والعصمة والويل والثبور وعظائم الأمور.
بعد كل هذا وأبعد من لماذا، وكل هذه الأسباب وسواها، هو السؤال: ماذا بعد؟
أصبحت «داعش» دولة مترامية المساحات في سوريا والعراق، متنامية القدرات، مالاً وسلاحاً ووحشية، وتستعد لاجتياحات جديدة، وإرسال «البعثات» الانتحارية، لتبشير «الكافرين» بفضائل الانتقال إلى الجحيم، بسرعة قطع الأعناق… لم تعد «داعش» تنظيماً، بل دولة قوية رهيبة الجوانب، غير معترف بها رسمياً ودولياً، فيما الدول المعترف بها، تترنح أمام جهوزيتها المتفوقة في استثمار «انتصاراتها» لإعلان «دولة الخلافة»، التي أحرجت أهل العقيدة، فناؤوا بطلب المبايعة، ونأوا عن الإجابة الصريحة. هم معها ولكن… إنما، لا وقت لـ«لكن» مع «داعش».
«داعش» تخوض معركتها من زمان. لم يكن سقوط الموصل غير ثمرة إقامة إمارتهم قبل إعلانها. «داعش» كانت على مدار أعوام، هي السلطة الفعلية، فيما قوى الجيش والشرطة، غارقة في الفساد، ومرتهنة لأموال «داعش»، التي فرضت الجباية والجزية والحصة من كل التزام، حتى باتت أجهزة الدولة الرسمية تابعة لها وفي خدمتها من سنوات و«داعش» دولة داخل دولة العراق… ومنذ اندلاع الثورة في سوريا لم تخسر معركة. فازت في كل حروبها، وتحديداً ضد من هو على يسارها أو على يمينها. غزوتها الأخيرة تتويج للفراغ الذي أحدثته جيوش انصرفت إلى التجارة والربح والرشوة، وهيئات حكومية أجادت تمثيل الأربعين حرامياً في دولة علي بابا… «داعش» هذه التي تهدد العراق وسوريا وتخيف الأردن، وتستنفر السعودية وإيران، معاً، ولو كانا ضدين… «داعش» التي تقرع الأبواب اللبنانية بالانتحاريين، وتقيم بعض قياداتها الميدانية في سجن رومية المحصّن، بشتى أنواع الفساد اللبناني وكمائن الربح والتهريب… «داعش» هذه التي استحوذت على مساحات نفطية وأمسكت بشرايين نهري دجلة والفرات، قادرة على خوض حرب مديدة، وتصفية «حلفائها» الموقتين، وإشعال الفوضى في المشرق كله…
قد يفشل قائد «داعش» في تأمين الطاعة له ولخلافته خارج إمارته وأرض خلافته. وهو لا يحتاج إلى إقناع، فلديه القدرة على فرضها، حيث يكون، بالوحشية الكافية. قبله، مارست الديكتاتوريات العربية، جمهورية كانت أم ملكية، سياسة انتزاع الطاعة والولاء بالترهيب والترعيب. فرض الجزية قديم في هذه البلاد، وأهل الذمة ليسوا من غير المسلمين فقط. فـ«داعش» حرب على الروافض له، سنة وشيعة وكفاراً… هذا بات معروفاً، وممارسته بَلقاء.
ليس هنا مربط الجواب. من يستطيع أن يتصدى لمشروع «داعش» ويهزمه؟ حتى اللحظة، لا جواب. هناك معارك صد وكر وفر. في العراق وفي سوريا. ليس في الأفق قوة قادرة على هزيمة «الدولة الإسلامية» وإلغائها. أميركا غير مستعدة لأفغانستان عراقية، ببشاعة غير مسبوقة. إيران معنية «بوحدة العراق» شعاراً، ودعم الشيعة واقعاً. «إنجازات» النظام السوري غير حاسمة. تحسين مواقع لا أكثر، مع احتمال نكسات في أكثر من ميدان. الأردن تهتز فرائصه. لبنان الهش، أكثر صموداً من سواه ولكنه ليس أكثر مناعة. السعودية تسمع دبيب «داعش» وتحشد قواها للدفاع. الخليج في حالة اصطياف سياسية. تركيا تتربص. الغرب ثرثار، يكثر من الكلام فقط. الروس مستعدون من بعيد. مصر، عندها حربها ضد «القاعدة الأم» المتمثلة بـ«الإخوان»…
فمن المؤهل لمواجهة «داعش» والقادر على هزيمتها؟ أميركا تركت الصومال يحتفل بالقتال. أخلت ليبيا المتناحرة. انسحبت من أفغانستان المهدد بعودة «طالبان». من غير أميركا؟ أي تحالف إقليمي أو دولي؟ «القاعدة» في اليمن، موفورة المعارك. الاعتداءات يومية في ليبيا. نيجيريا تتآكلها «بوكو حرام»… حتى الآن لا أحد. لذلك ترتسم في الذهن خرائط مجنونة: العراق الموحد طالق بالثلاث: كرداً وسنة وشيعة. ليصبح في الواقع، كردستان وسنّستان وشيعستان.
وسوريا، تفرز كوابيس الاقتسام والتقسيم، حيث من المتعذر جداً، استعادة صورة سوريا الواحدة. هي أيضاً مرشحة لتكون مشلعة بين «سُنِّستان» (في العراق والشام) و«كردستان الصغرى» و«علويستان». (هذه صياغات رسمتها صحيفة التايمز). وإذا طال الزمن، وارتسمت خطوط تماس بين السعودية و«داعش»، فستكون ارتداداتها على السعودية، كشعب وجمعيات ومرجعيات، مرعبة جداً. فلـ«القاعدة» في المملكة حضور ومؤيدون. حزب «أسامة بن لادن» فيها، يتمتع بشعبية كاسحة. «داعش»، تكسب سعودياً، كلما تقدمت واشتدت «خلافتها».
لا صورة ترتسم فيها المملكة السعودية موحدة، ولا اليمن. أما دول الخليج، فبدد وغبار. حرب السعودية على «الإخوان» بالوكالة سهلة، مالاً ونفطاً ودعماً. مصر تكفلت بذلك، أما الحرب على «داعش» فهي من نوع آخر، قد لا تقوى المملكة عليه.
ليس في الأفق الراهن، معالم لخريطة مصالحة سنية ـ شيعية في المشرق، تنعكس على الحرب في سوريا والعراق ولبنان. هذا المفتاح المفقود، يطلق العنان لحرب «داعش» على الكيانات والمكوّنات معاً.
ماذا بعد؟
الخرائط، كي ترسو بحدودها على الورق وعلى الأرض، بحاجة إلى اكتمال نصاب الحرب. لا حلول وسطى مع «داعش»، ولا حرب حاسمة وقاصمة. فالمعارك مستمرة، والخراب متفوق، والناس يرحلون في عراء عربي، ليس فيه خيمة صغيرة لوطن.
هل ينجو لبنان؟
الأمن الاستباقي وحده غير كاف. انتخاب رئيس للجمهورية أقل من القليل. وحدها التسوية الاقليمية والصفقة الداخلية، والاحتماء بالقوى المحلية والدولية، يجنبه أن يستيقظ يوماً على صوت إعلان إمارة سنية في لبنان، تبايع «داعش»، تطيح لبنان الدولة والكيان والسيادة والنظام والتعايش.
مرة أخرى… ليت لا.
صحيفة السفير اللبنانية – نصري الصايغ