واشنطن: إنعطافة استراتيجية أم انحناءَة تكتيكية؟
صحيفة الجمهورية اللبنانية ـ
طارق ترشيشي:
الذين راهنوا على أنّ موسكو ستغيّر موقفها من الأزمة السورية مع مرورالايام، وستلتحق بالموقف الاميركي خصوصاً، والغربي عموماً، في اتجاه تخَلّيها عن دعم الرئيس السوري بشار الأسد، فوجئوا بتصريحات وزير الخارجية الاميركي جون كيري الأخيرة التي دعا فيها الأسد للجلوس الى طاولة المفاوضات مع المعارضة السورية. وهي تصريحات أكّدت انّ واشنطن هي التي اقتربت من موسكو وقفزت فوق تصريحات مسؤوليها التي كانت تطالب على مدى عامين بتَنحّي الاسد، وتتحدث عن فقدانه شرعيته، وأنّ أيامه في السلطة معدودة.
لم تخفّف من وَقع تصريحات كيري محاولات المتحدثة باسم الخارجية الاميركية فيكتورا نولاند، التي قالت إنه لم يقصد الاسد فيها، وإنما قيادات في نظامه. كذلك لم تخفف من وَقعِها مسارَعَة باريس ولندن الى الدعوة لرَفع الحظر الاوروبي عن مَد المعارضة السورية بالسلاح، خصوصاً بعدما اتضح انّ الاتحاد الاوروبي ليس ميّالاً لهذا الموقف الفرنسي – البريطاني المتشدد.
وجاءت تصريحات المستشارة الالمانية انجيلا ميركل، الرافضة الدعوة الانكلوـ فرنسية الى تسليح المعارضة، لتؤكد انّ انقساماً واضحاً داخل اوروبا يتسِع اليوم اكثر من اي وقت مضى، وانّ باريس لا يمكن ان تقفز فوق الموقف الالماني وهي التي تدرك أنّ المانيا تشكّل القاطرة الاقتصادية لأوروبا بأسرها، وهي القارة التي تتفاقم أزماتها الاقتصادية والمالية وتنتشر في كلّ دوَلها تقريباً، بما في ذلك فرنسا نفسها.
لم يكن الموقف الاميركي غريباً على مُجمل المراقبين الموضوعيين، خصوصاً بعد إعادة انتخاب باراك اوباما لولاية جديدة. فالإدارة الاميركية أطلقَت إشارات خلال الاشهر الماضية الى أنها تقترب من الموقف الروسي في تفسير وثيقة جنيف حول الأزمة السورية، والتي تركّز الخلاف على تطبيقها يومها بسبب نقطة وحيدة وهي أنه هل يكون الحلّ مع الأسد او من دونه؟
وبرزت هذه الاشارات الأميركية حين وضعت واشنطن “جبهة النصرة” على لائحة الإرهاب، مُربكة بذلك حلفاءها في المعارضة السورية والدوَل العربية والاقليمية المساندة لهم. كذلك بَرزت من خلال تصريحات وتسريبات من العاصمة الاميركية حول عدم قدرة المعارضة السورية على توحيد نفسها، وعلى عدم اطمئنان واشنطن الى مصير سوريا إذا مالَت الكفّة لمصلحة المتشددين السوريين من المُنتمين الى تنظيم “القاعدة”.
ولم ينعكس هذا الانقسام في الموقف من الأزمة السورية على التحالف الغربي الداعِم للمعارضة فقط، بل انعكس ايضاً على المعارضة نفسها التي لم تستطع توحيد نفسها، على رغم إغراء مجلس الجامعة العربية لها بإعطائها مقعد سوريا فيه إذا ألّفت حكومة انتقالية أو هيئة تنفيذية. واتّضح أيضا انّ مبادرة رئيس الائتلاف الوطني احمد معاذ الخطيب الى الحوار مع النظام السوري، لم تكن مبادرة فردية أو عفوية، بل كانت ابنَة مناخ سياسي دولي وسوري يعكس تحوّلات في طريقة التعاطي مع الأزمة السورية.
وهذه التحولات المهمة في الموقف الأميركي وداخل الاتحاد الاوروبي توحِي بأنّ ظروف التسوية الدولية للأزمة السورية باتت تقترب من مرحلة النضوج. إلّا انّ هذا الاقتراب لا يعني حلاً سريعاً لهذه الأزمة، فأيّ مراقب يُدرك انّ هذه التسوية، اذا لم تنعكس على سياسات الدول المُمَوِّلة للمعارضة والمُسلِّحة لقواها، فإنّ الحل في سوريا سيتأخر بعض الوقت في ظلّ معادلة ميدانية تؤكد أن الحسم العسكري لأيّ من الطرفين ليس قريباً.
وعلى رغم اعتقاد المراقبين أن الجهات الاقليمية الداعمة للمعارضة المسلحة لن تغيّر مواقفها سريعاً، فإنّ مَن يعرف طبيعة العلاقات بين هذه الجهات والدوَل وبين الادارة الاميركية يُدرك أنه من الصعب عليها معارضة الاميركيين لفترة طويلة.
غير أن البعض، المُشكِك بالتحوّل في الموقف الاميركي، ما يزال يعتقد أن السياسة الأميركية تجاه سوريا ما زالت تعتمد الاستراتيجية ذاتها، وهي إضعاف النظام ومعارضيه المسلحين، بل إنهاك سوريا واستنزاف قدراتها وتمزيق وحدتها التي طالما أزعجَت السياسات الغربية والإسرائيلية في المنطقة.
فهَل نحن أمام انعِطافة استراتيجية حقيقية في الأزمة السورية وأنّ تسوية ستنطلق من المستوى الدولي الى المستوى الاقليمي، فالمستوى المحلي؟ أم أنّ ما نراه اليوم هو مجرّد انحناءة تكتيكية تُحاوِل واشنطن من خلالها ربحَ وَقت لترى ماذا سيحصُل في الميدان فعلاً؟ وهل ستشهد الايام القليلة المقبلة تصعيداً عنفيّاً كبيراً في سوريا من أجل تقوية أوراق جميع الأطراف على طاولة مفاوضات، يَسعى المسؤولون في موسكو وواشنطن الى تجهيزها؟
الجواب دائماً يبقى في الميدان…