هل يساهم الربيع العربي .. في تصفية القضية الفلسطينية؟
صحيفة الوطن العمانية ـ
د. فايز رشيد*:
ما يزيد عن العام ونصف واقتراب السنتين مضى على “الربيع العربي”. عندما قام الحراك الجماهيري في تونس وانتقل بعدها إلى مصر ومن ثم ليبيا واليمن وفيما بعد إلى سوريا (كما يحلو للبعض اعتبار ما يجري فيها جزءًا من هذا الربيع)، تفاءلت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج بهذا الحراك (ولا نقول ثورة). البعض من الكتَّاب والمثقفين كان له رأيٌ آخر فيما يجري: فقد ارتأى أن هذه الحراكات مخطط لها، وأن الولايات المتحدة الأميركية تقف خلفها بدليل: أن ليس من مصلحتها على الإطلاق تحرير الجماهير من أنظمتها في هذه البلدان، لأن انطلاق المارد العربي من قمقمه سيعني: التحرر من السيطرة الأميركية والوقوف في وجهها ومقاومة إسرائيل ورفع شعار: تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. عمليًّا فإن غالبية الأمة العربية راهنت على التغيير الجذري لهذه الحراكات لصالح القوى الشعبية العربية. من هنا فالبعض اعتبرها (ثورات) وآخرون (انتفاضات) أو (هبَّات) وغيرهم اعتبروها (حراكات).
اليوم وبعد مضي هذه المدَّة، وضح الأمر تمامًا، وتبين أن ما حصل: هو أبعد ما يكون عن الثورات, فهذه لها أدواتها وبرامجها وقياداتها والحراكات ليست كذلك، هي في حقيقتها انعكاس للظلم والمعاناة التي يقاسيها المواطن العربي في هذه البلدان، فبالنسبة إليه: بلغ السيل الزبى، وانفجر البركان وكان الإعلان بعد مجيء القشة التي قصمت ظهر البعير. بالتالي فلا يمكن ولا بأي حال من الأحوال التشكيك بأصالة وبعفوية وبعدم تبعية هذه الحراكات لأي جهة خارجية, فقد قامت احتجاجًا على رداءة وسوء الأوضاع وقسوتها. الجماهير العربية سبقت قواها الوطنية والإسلامية التي ركبت موجة هذه الحراكات، ومثلما قلنا لم تستطع هذه القوى التوحد في برنامج يرسم مهمات المرحلة المقبلة ما بعد التغيير, والإجابة على أسئلة مهمات المرحلة وما هو المطلوب؟ القوى المتواجدة عملت وفقًا لقانون: أقصى الاستفادة من الحراكات للصالح التنظيمي الضيق الأفق وللمصالح الفئوية التنظيمية بعيداً عن مصالح الجماهير وقواها الأخرى.
المعسكر الغربي عمومًا والولايات المتحدة بشكل خاص كانا أمام خيارين لا ثالث لهما، الأول: الوقوف في وجه هذه الحراكات وهذا سيزيد من ردة الفعل الجماهيرية العربية ضدها، وبخاصة أن الأنظمة في بلدان الحراك قد استهكلت وتجازوت تاريخ الصلاحية. الخيار الثاني: محاولة الاستدارة بهذه الحراكات وتوجيهها وجهة أخرى بعيدة تمامًا عن نتائج التغيير الجذري (الثوري). الأخير هو الخيار الذي انتهجته الولايات المتحدة. من أجل ذلك كلَّفت معاهد الأبحاث والدراسات فيها بالبحث في الوسائل والطرق المتوجب التعامل فيها مع الذين ركبوا موجة هذه الحراكات. الخيارات الجديدة تمثلت أيضًا في مسألتين الأولى: إجراء الحوار, لذلك عقد معهد كارينجي للسلام في واشنطن حلقة حوارية مع وفود من الإخوان المسلمين في كل من مصر، تونس، لبيبا، الأردن، المغرب، وكان جدول الأعمال عبارة عن نقطة واحدة هي: آفاق المستقبل إذا ما تسلمت هذه الأحزاب للسلطة في بلدان الحراك، هذه الوفود عقدت أيضًا لقاءات مع مساعد وزيرة الخارجية الأميركية وليام بيرنز. منذ تلك اللحظة وبعد الوصول إلى قواسم مشتركة، فضت الولايات المتحدة الفيتو عن تسلم الأحزاب الإسلامية للحكم في بلدانها. كثيرون يعتقدون أن صفقات جرى عقدها في تلك اللقاءات. بالتالي بدأنا نسمع من المسؤولين الأميركيين وعلى رأسهم هيلاري كلينتون تصريحات من نمط: أن الولايات المتحدة لا تمانع في نجاح الأحزاب الإسلامية في انتخابات تسلم السلطة في أقطارها. الخيار الثاني للولايات المتحدة كان من خلال: الضربات العسكرية (من خلال الناتو) كالذي حصل في ليبيا لشل قدرات نظام القذافي. هذا الأسلوب أرادوا تطبيقه في سوريا لولا الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن على أي مشروع قرار أميركي من هذا القبيل.
أيضًا وكما جرى التخطيط للعالم العربي مع بدء العولمة ووصولها إلى مرحلة التنفيذ: إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية في كل الدول العربية لتفتيت الوحدة الوطنية فيها، حيث يسهل تقسيم البلدان العربية إلى دويلات. نجح هذا الأمر في السودان بانفصال الجنوب. التجربة قيد التنفيذ في العراق فالأكراد شبه مستقلين في دويلتهم، وكذلك دويلة للسنة وأخرى للشيعة. في ليبيا واليمن وسوريا كذلك الأمر، فيجري الحديث حول الأخيرة لتقسيمها إلى ستة دويلات. في مصر: إثارة النعرات بين الأقباط والمسلمين، في لبنان: المسألة الطائفية في أوجها وهكذا دواليك.
ما جرى هو ملامح مستقبلية لشرق أوسط جديد، تكون فيه القوة الإقليمية الأولى في المنطقة هي: إسرائيل. في حوار جمع بين رئيس تحرير جريدة السفير طلال سلمان والمناضلة الفلسطينية ليلى خالد أثناء زيارتها للصحيفة، قال سلمان (بما معناه): إن المرحلة المقبلة (والحوار كان قد دار قبل سنوات, أي قبل مرحلة الربيع العربي) ستشهد إشعال حرائق تفتيتية كبيرة في الدول العربية وبخاصة الدول المحاذية لفلسطين, بهدف الإجهاز على القضية الفلسطينية.
بالمعنى الفعلي: فإن إشغال الدول العربية بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وطائفية وحروب داخلية هو الطريق للقضاء على أي مقاومة للمشروع الأميركي ـ الإسرائيلي في المنطقة, وتصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد (هكذا يعتقدون). منذ سنوات كثيرة رسمت للوطن العربي خرائط تقسيمية تقريبًا لكافة الدول العربية، بالطبع من معاهد أميركية، وأحد المروجين لهذا المشروع هو الصهيوني برنارد ليفي.
بالنسبة لفلسطين في الحراكات الشعبية العربية، فباستثناء مظاهرة أقامها الناصريون وبعض القوى الأخرى حول السفارة الإسرائيلية في القاهرة، تطورت إلى هدم جدار السفارة، وإنزال العلم الإسرائيلي من عليها ورفع العلم المصري بدلًا منه وفيما بعد اقتحامها, فإن شعار فلسطين ظل مغيبا. الهجوم على السفارة جاء لأهداف مصرية بشكل رئيسي نتيجة للدور التخريبي للسفارة في مصر. الشعار الفلسطيني غاب إلى حد كبير عن الحراكات الشعبية العربية. في تونس الشعار شبه مغيَّب، كذلك الأمر في ليبيا ويقال إن حادثة القنصلية الأميركية كان مخططًا لها قبل ظهور الفيلم المسيء للرسول الكريم (صلوات الله عليه وسلامه عليه) وفي مناسبة 11/سبتمبر للرد على اغتيال أحد أمراء الجهاد في أفغانستان. في مصر بعد نجاح مرسي: فإن موقف الرئيس الجديد لا يختلف عن الرئيس المخلوع حسني مبارك بالنسبة للقضية الفلسطينية, وجملة تأييد حقوق الفلسطينيين تجيء كلمة عامة في خطابات الرئيس المصري. بالنسبة لكامب ديفيد والعلاقات مع الولايات المتحدة، ظلَّت كما هي. معبر رفح يعمل بنفس روتين برنامج مبارك، الجديد: إن مصر قامت بهدم كافة الأنفاق في رفح والتي يجري من خلالها تهريب بعض المواد الغذائية الحياتية إلى قطاع غزة. في عهد مبارك كان يجري تجاهل وجود بعض الأنفاق. مصر الدولة العربية الوحيدة التي حضرت مؤتمر ما يسمى باللاجئين اليهود من الدول العربية, والذي عقد مؤخرا في نيويورك على هامش الدورة الجديدة للأمم المتحدة. بالنسبة لليمن فإن الشعار الفلسطيني مغيب والأزمات كثيرة في هذا البلد.
في سوريا كان رئيس المجلس الوطني السوري السابق برهان غليون واضحا في رسائله التي أرسلها للولايات المتحدة وإسرائيل في أنه سيقطع علاقات سوريا مع إيران والمقاومة اللبنانية، وأنه سيحل قضية الجولان مع إسرائيل من خلال المفاوضات. الرئيس الحالي للمجلس وأعضاء قيادته هم في هذا الإطار السياقي لغليون فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. من ناحية ثانية فإن إسرائيل تفرض وقائعها على الأرض وهي في غاية الارتياح للصراعات والحرائق البينية في العديد من الدول العربية، الأمر الذي يمكننا فيه القول: إن الربيع العربي وبدلًا من تحرير فلسطين سيساهم ولو بطريق غير مباشر في تصفية القضية الفلسطينية.
*كاتب فلسطيني