هل يتجه الشرق الأوسط نحو الانفجار أم التهدئة؟
موقع قناة الميادين-
حسن نافعة:
بينما يعدّ العامل الإسرائيلي حاسماً في دفع تفاعلات المنطقة نحو التصعيد، تؤدي الحرب المشتعلة في أوكرانيا دوراً حاسماً في توليد كوابح تساعد على دفع تفاعلات المنطقة نحو التهدئة.
يبدو أن منطقة الشرق الأوسط وصلت الآن إلى مفترق طرق، ما قد يفضي بها إلى أن تسلك أحد طريقين، الأول قد يقودها إلى انفجار واسع النطاق ليس من المستبعد أن يأخذ شكل الحرب الإقليمية، والثاني قد يقودها إلى تهدئة مؤقتة قد تستمر حتى نهاية الحرب الكونية المشتعلة حالياً على الساحة الأوكرانية.
ملفان سيتحكّمان معاً في تحديد أي من المسارين ستسلكه هذه المنطقة: ملف البرنامج النووي الإيراني، من ناحية، وملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من ناحية أخرى. ولأنهما يرتبطان معاً بعلاقة عضوية غير قابلة للانفصام، يتوقّع أن يكون لهما تأثير مشترك على الوجهة التي ستسلكها المنطقة، سلماً أو حرباً، على الرغم من اختلاف العوامل المحلية والإقليمية والدولية المؤثرة على كل منهما.
فبينما يعد العامل الإسرائيلي حاسماً في دفع تفاعلات المنطقة نحو التصعيد، تؤدي الحرب المشتعلة على الساحة الأوكرانية دوراً حاسماً في توليد كوابح تساعد على دفع تفاعلات المنطقة نحو التهدئة والبحث عن تسويات مرحلية أو مؤقتة.
حين اتخذ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قراره بانسحاب الولايات المتحدة من “خطة العمل الشاملة المشتركة”، الاسم الرسمي للاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي الموقّع عام 2015، مصحوباً بفرض عقوبات شاملة على إيران، لم يكن يدرك أن قراره هذا سيعطي لإيران مبرّراً قانونياً وأخلاقياً للتحلّل من التزاماتها بموجب هذا الاتفاق، ومن ثم دفعها للمضي قدماً نحو تطوير برنامجها النووي إلى أقصى مدى مستطاع.
فمنذ أيام قليلة صرّح كولن كال، وكيل وزارة الدفاع الأميركية لشؤون السياسات، قائلاً: “كانت إيران تحتاج في عام 2018 إلى 12 شهراً لإنتاج قنبلة نووية، أما اليوم فهي تحتاج إلى 12 يوماً فقط”، وهو ما ينطوي على اعتراف رسمي من جانب إدارة بايدن بأن حملة الضغط والعقوبات القصوى على إيران باءت بالفشل، وبأن إيران أصبحت الآن قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى “العتبة النووية”. وفي سياق كهذا، قد يستحيل منع إيران من الحصول على القدرات التي تمكّنها من صنع القنبلة النووية إلا باستخدام واحد من بديلين:
الأول: تدمير منشآتها النووية بضربة عسكرية واسعة النطاق، وهو البديل الذي تفضّله “إسرائيل” وتسعى بكل الوسائل إلى جرّ الولايات المتحدة لاعتماده رسمياً، سواء تم الاتفاق على أن تقوم الولايات المتحدة بالمهمة أو بالاشتراك مع “إسرائيل”. ولأنه بديل محفوف بالمخاطر، خاصة وأن نتائجه ليست مضمونة بالكامل، فضلاً عن أنه قد يتسبّب في إشعال حرب إقليمية شاملة سيترتّب عليها حتماً مضاعفة أسعار النفط، وهو ما لا يمكن للنظام العالمي أن يحتمله في ظل الحرب المشتعلة حالياً على الساحة الأوكرانية، يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة لن تلجأ إليه إلا كملاذ أخير، وبعد أن تصبح على يقين تام بأن فرص نجاحه باتت مضمونة، وهو ما لم يثبت بعد.
الثاني: عودة الولايات المتحدة إلى اتفاق 2015، حتى لو اضطرت للقبول بالشروط الإيرانية المعروفة، ألا وهي إلغاء العقوبات المفروضة على الشركات التي تتعامل مع حرس الثورة، والاعتراف رسمياً بحق إيران في استئناف جميع جوانب برنامجها النووي إذا انسحبت الحكومة الأميركية مجدّداً من “خطة العمل الشاملة المشتركة”.
أما إذا رفضت إدارة بايدن هذه الشروط، فلن يكون أمامها سوى الاستمرار في فرض عقوبات ثبت بالدليل القاطع أنها لا تكفي لحمل إيران على تغيير سياساتها، خاصة في ظل تنامي علاقاتها التعاونية مع كل من الصين وروسيا على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية كافة.
كثيرون، بمن فيهم مقرّبون من دوائر صنع القرار الأميركي في الإدارة الحالية، يعتقدون أن اتفاق 2015 ينطوي على عيوب واضحة، لأنه يعطّل قدرة إيران على تصنيع سلاح نووي حتى عام 2030، لكنه لا يلغيها. لذا يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة تواجه مأزقاً على هذا الصعيد، وهو ما يعترف به صراحة السفير دينيس روس، المساعد الخاص السابق للرئيس أوباما وصاحب المناصب الرفيعة في مجلس الأمن القومي الأميركي إبان إدارات ريغن وبوش وكلينتون.
ففي مقاله المنشور يوم 9 أيلول/سبتمبر الماضي في مجلة “فورين بوليسي” الشهيرة تحت عنوان “اتفاق نووي جديد مع إيران لن يمنع صنع قنبلة نووية”، كتب روس يقول: “إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، ستقترب إيران من امتلاك قنبلة نووية عاجلاً وليس آجلاً. أما إذا أعيد إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة فستمتلك إيران هذه القنبلة آجلاً وليس عاجلاً”.
ومن هنا اقتراحه بأن تبدي إدارة بايدن جدية أكبر في إظهار عزمها على استخدام القوة العسكرية ضد إيران في الوقت المناسب، وتزويد “إسرائيل” في الوقت نفسه بكل التسهيلات اللازمة لتمكينها من القيام بهذه المهمة، إذا اقتضت الضرورة. وتدلّ كثرة الزيارات المتبادلة على أعلى المستويات بين مسؤولي السياسة الخارجية والأمن في كل من الولايات المتحدة و”إسرائيل” خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، على أن إدارة بايدن تسير حالياً على خطين متوازيين فيما يتعلق بتعاملها مع ملف إيران النووي:
الأول، يوحي بترجيح كفة العمل الدبلوماسي الذي يستهدف العودة إلى الالتزام باتفاق 2015.
الثاني: يسعى إلى إقناع “إسرائيل” بأن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران مطلقاً، لا الآن ولا في المستقبل القريب أو البعيد، بامتلاك السلاح النووي حتى لو اضطرت لاستخدام الخيار العسكري كملاذ أخير.
ومن الواضح، رغم كل ما تقدّم، أن إيران لا تزال تملك زمام المبادرة في إدارة ملفها النووي، ومن ثم فليس من المستبعد مطلقاً أن تتمكّن من فرض شروطها في النهاية، خاصة وأن الحرب المشتعلة حالياً على الساحة الأوكرانية تدفع الولايات المتحدة للحرص على عدم فتح جبهة جديدة في منطقة على هذا القدر من الحساسية.
فإذا انتقلنا الآن إلى فحص العوامل المؤثرة على تطور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فسوف نلاحظ على الفور أن كفة التصعيد ترجح على كفة التهدئة، خاصة بعد أن زادت حدة التوتر في الأراضي الفلسطينية المحتلة عقب تولي حكومة نتنياهو التي تتحكّم فيها أحزاب الصهيونية الدينية بمقاليد الأمور.
ولأنها حكومة لم تعد تخفي نواياها في ضم أجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتعلن تصميمها على الإسراع بوتيرة التهويد في معظم هذه الأراضي، خاصة في مدينة القدس، بل وليس من المستبعد أن تفتعل الأزمات الواحدة تلو الأخرى لتبرير إقدامها المحتمل على هدم المسجد الأقصى أو ترحيل الفلسطينيين مما تعتبره أرضا “توراتية” موعودة، فقد أيقن الفلسطينيون، خاصة الأجيال الشابة، أن طريق حل الدولتين بات مغلقاً تماماً، وأن عليهم ألا يعوّلوا سوى على قدراتهم الذاتية لرفع تكلفة استمرار الاحتلال الإسرائيلي إلى أعلى مستوى ممكن، ما يفسّر تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية البطولية، خاصة من جانب أفراد لا ينتمون بالضرورة للفصائل الفلسطينية التقليدية.
يزيد من خطورة الوضع مطالبة الأحزاب الدينية بتسليح المستوطنين، والذين يشكّلون قاعدتها الانتخابية الرئيسية، وتحريضهم على الإغارة على القرى والمخيمات الفلسطينية المجاورة، ما ينذر بتوسيع نطاق المواجهات المباشرة مع السكان الفلسطينيين العزّل، بل وقد يؤدي إلى دخول الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة على خط المواجهة، وبالتالي إلى اندلاع صدام مسلح واسع النطاق مع “الجيش” الإسرائيلي.
فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أنه بات من الصعب الآن الفصل بين ما يجري على الجبهة الفلسطينية وما يجري على بقية الجبهات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة على الجبهتين اللبنانية والسورية، لتبيّن لنا أن اشتعال الصراع على إحداها قد يؤدي هذه المرة إلى اشتعالها على بقية الجبهات، ومن ثم إلى اندلاع حرب إقليمية شاملة في المنطقة.
وربما يكون من المفيد هنا أن نتذكّر ما قاله السيد حسن نصر الله مؤخّراً، وهو يعني دائماً ما يقول، حين ربط بين سيناريو الفوضى الذي يحاك على الجبهة اللبنانية وسيناريو الحرب التي قد تضطر المقاومة للمبادرة بها هذه المرة، وذلك حين أكد أنه لن يقبل بسيناريو الفوضى الذي تحاول القوى اللبنانية المرتبطة بالأجندتين الأميركية والإسرائيلية فرضه على لبنان، ومن ثم فلن يتردّد في أن يأخذ زمام المبادرة بشن الحرب إذا ما تأكد له أن الولايات المتحدة و”إسرائيل” تتعمّدان استخدام استراتيجية نشر الفوضى في لبنان كوسيلة للوصول إلى هدفهما النهائي بنزع سلاح حزب الله.
معنى ذلك أن شرارة الحرب باتت قابلة للاشتعال من أي موقع على امتداد محور المقاومة، سواء من فلسطين أو من لبنان أو من سوريا أو من إيران، وأنها إذا بدأت في الاشتعال من موقع ما فقد لا يكون بمقدور أحد تحجيم نطاق المواجهة ومن ثم فربما تخرج عن نطاق السيطرة وتفضي في النهاية إلى حرب إقليمية شاملة.
من الواضح أنه ليس لدى الولايات المتحدة مصلحة في التصعيد على جبهة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كي تتفرّغ لإدارة الصراع الأهم المشتعل على الساحة الأوكرانية، ولذا تحاول توظيف علاقاتها المتميّزة بالأنظمة الحاكمة في كل من مصر والأردن للضغط على الفلسطينيين من أجل التهدئة. وهو ما بدا واضحاً في اجتماع العقبة الأخير، غير أن انفلات الحكومة الإسرائيلية، والتي تتحكّم فيها عناصر فاشية، قد يؤدي إلى خروج الأوضاع عن نطاق السيطرة في أي لحظة.