نبوءة “العقد الثامن” في “إسرائيل” بين الواقع والأسطورة
موقع قناة الميادين-
حسن لافي:
ما يحدث الآن في “إسرائيل” من انشقاقات وفجوات مجتمعية وأيديولوجية واقتصادية وسياسية بات من الصعب معالجته، ومن الصعب أيضاً تجسير الهوة بين الفئات اليهودية.
حذّر بعض المفكرين والسياسيين الإسرائيليين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك، من “خطر العقد الثامن” على “دولة” الاحتلال، في ضوء قوة تأثير الرواية التاريخية الصهيونية في الوعي الصهيوني الجمعي، والتي تتحدث عن أنَّ مملكة النبي داوود وسليمان بلغت نهايتها كمملكة موحّدة في العقد الثامن من عمرها.
هذا الأمر تكرّر مرة أخرى في مملكة الحشمونئيم التي انتهت على يد الرومان عام 70م، وتم خراب الهيكل الثاني. وما زال اليهود يقيمون طقوس العزاء سنوياً لتخليد الحدث في الذاكرة اليهودية من خلال صوم 9 آب/أغسطس؛ ذكرى خراب الهيكل الثاني، كما تدّعي الرواية الصهيونية التاريخية.
وترجع الروايات الصهيونية أسباب انهيار الدولة اليهودية في الحالتين إلى أسباب داخلية في الأساس، فتحت الباب أمام الأخطار الخارجية للتعاظم، وصولاً إلى الخراب الكامل، “فالعقد الثامن” بشّر في كلا الحالتين ببداية تفكك الوحدة اليهودية الداخلية وظهور الكراهية التي سادت بين أجنحة المجتمع اليهودي؛ ففي العقد الثامن، انقسمت مملكة داوود إلى “يهودا” في الجنوب، و”دولة إسرائيل” في الشمال. وفي العقد الثامن أيضاً، نشأ استقطاب عميق داخل مملكة الحشمونئيم، ووصل الأمر ببعضهم إلى المطالبة بتفكيك المملكة وجعلها تابعة لروما آنذاك.
وبعيداً من التأثير العميق لأسطورة خراب الهيكل من الداخل، وكون التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن سننه تتكرر في سقوط الدول والممالك، نجد أنّ ما يحدث الآن في “إسرائيل” من انشقاقات وفجوات مجتمعية وأيديولوجية واقتصادية وسياسية بات من الصعب بمكان جسره، وبات من الصعب أيضاً تجسير الهوة بين الفئات اليهودية.
هذه المشكلة برزت بكلّ وضوح خلال أزمة الإصلاح القضائي الذي تنوي حكومة بنيامين نتنياهو السادسة تنفيذه، وقبلها التوتر وخطاب الكراهية داخل المجتمع اليهودي في “إسرائيل”، الذي دأبت التقديرات الإستراتيجية الأمنية سنوياً على التحذير منه وتوضيح أخطاره الإستراتيجية على أهم عامل في قوة “إسرائيل”، وهو الحصانة القومية المجتمعية.
كل ذلك يطرح تساؤلات حقيقية عن إمكانية انهيار “إسرائيل” من الداخل، والتي عبر عنها السينمائي الإسرائيلي غادي دار في فيلمه الاستثنائي “أسطورة الخراب”، وكتب عنها الصحافي آري شبيط في كتابه “بيت ثالث: من شعب إلى قبائل إلى شعب”، الذي يطرح أنَّ “التحديات الأمنية يمكن مواجهتها، لكن تفكّك الهوية لا يمكن التغلّب عليه”. وبالتالي، يصبح الإسرائيليون أكبر خطر على “دولتهم”.
خروج عشرات الآلاف من المتظاهرين الإسرائيليين إلى الشوارع ضد حكومتهم على مدار أكثر من 12 أسبوعاً، وتفعيل حال قوية من الاحتجاجات السلمية للمطالبة بوقف الإصلاحات القضائية، قد يكون مؤشراً جيداً على “حيوية المجتمع” الإسرائيلي وحرصه على الحفاظ على حقوقه المدنية من تغول السلطة الحاكمة وتحول “إسرائيل” من دولة ديمقراطية إلى ديكتاتورية وهيمنة الأغلبية.
لكن هذا الأمر ما هو إلا الستارة التي تخبئ خلفها صراعاً مريراً وشرساً بين أجنحة التركيبة السكانية اليهودية في “إسرائيل”، ليس على أساسات سياسية فحسب، بل أيضاً على مرتكزات دينية وأيديولوجية واقتصادية، بل أكثر من ذلك على طبيعة أسس الهوية الإسرائيلية.
كشفت الإصلاحات القضائية والاحتجاجات عليها أن هناك فريقين داخل المجتمع الصهيوني، كل فريق منهما مكون من مجموعة من الكتل:
الفريق الأول يقوده نتنياهو، ويضمّ غالبية اليهود الشرقيين والحريديم والصهيونية الدينية واليمين المتطرف العلماني ذي التوجهات الخطرة ضد المحكمة العليا. هذا الفريق يمكن أن نسميه “الإسرائيليين الجدد” الذين لا ينتمون إلى الهوية الإسرائيلية ذات الأصول الأشكنازية العلمانية التي أرادها الآباء المؤسسون لـ”إسرائيل”، بل يطالبون بتشكيل هوية إسرائيلية مغايرة تحمل بصماتهم الأيديولوجية والسياسية والدينية، وهم يعتبرون أن المنظومة القضائية، وخصوصاً المحكمة العليا، تقف حائلاً بينهم وبين تحقيق ذلك.
الفريق الثاني هو تشكيلة واسعة من المتظاهرين والمعارضين مكونة من أحزاب سياسية، وجمعيات أهلية وحقوقية، وقطاعات اقتصادية، وأكاديميين، وجنود وضباط احتياط داخل “الجيش” ووحداته العسكرية.
كل هؤلاء الذين يشاركون في التظاهرات ضد نتنياهو، يتحدرون من الفئة الأشكنازية العلمانية المؤسسة لـ”دولة” الاحتلال، وهي ذات جذور ضاربة في هوية الكيان التي تمثل الطبقة العليا في “إسرائيل” منذ نشأتها.
يتمثّل الصراع الحقيقي بأن هناك إسرائيليين جدداً لم يكونوا جزءاً فاعلاً في تأسيس “هُوية إسرائيل” ونظاميها السياسي والاقتصادي، ولم يكونوا جزءاً في صياغة منظومة العقد الاجتماعي المؤسس للحالة الصهيونية الداخلية، بل فرضت عليهم ظروفهم التاريخية وضعف قدرتهم في التأثير آنذاك، وأجبرتهم هيمنة الأشكناز والتيار العمالي على أن يقبلوا ذلك رغماً عنهم، في مقابل بعض الهوامش والحقوق السياسية.
ولكن مع التغيرات السياسية والاقتصادية التي مرت على “إسرائيل” في سنوات عمرها، بدأ هذا الفريق يكتسب مساحات ويتقدم خطوات، وصارت قدرته على التأثير تتزايد، إلى أن أصبح منافساً بشكل قوي على تسيّد المشهد السياسي في “إسرائيل”، وخصوصاً في العقدين الأخيرين.
هنا، بدأ يتطلع إلى تغيير “هوية إسرائيل” برمتها بما يتناسب مع أفكاره ومصالحه وأيديولوجياته، من خلال استكمال حالة السيطرة السياسية بالسيطرة الثقافية والإعلامية والقضائية التي ما زالت تسيطر عليها الطبقة الأشكنازية.
في المقلب الآخر، تنظر الطبقة الأشكنازية إلى نفسها بوصفها أساس الهوية الإسرائيلية، وهي تطابق بين هويتها الأشكنازية والهوية الإسرائيلية، وترى أنها الطبقة التي تقوم “إسرائيل” على أكتافها، فهي من يدفع الضرائب، في الوقت الذي تعيش غالبية الفريق الآخر عالة عليها من دون مشاركتها في تحمل العبء الوطني، وهي المسؤولة عن الطفرة الاقتصادية في صناعة الهايتك الإسرائيلية والمسيطرة على الأكاديميا الإسرائيلية. وفي داخل “الجيش”، يخدم أبناؤها في الوحدات العسكرية النوعية، مثل سلاح الطيران ووحدة 8200 الاستخباراتية وسلاح السايبر.
ما يزيد حال التوتر بين الفريقين أنهما متساويان في الأحجام تقريباً داخل المجتمع اليهودي، وأنَّ كلا الطرفين يعتبر أنها معركة وجود داخل المجتمع اليهودي، وبعضهم يجعلها جزءاً من الواجب الديني المنوط به، وخصوصاً داخل تيار الصهيونية الدينية.
أضف إلى ذلك أن التيار اليميني العلماني ضعيف أمام هيمنة نتنياهو الباحث عن خلاصه ومصالحه الذاتية. وفي سبيل تحقيقها، أنهى تقريباً أي مراكز قوة لليمين العلماني المعارض، أمثال جدعون ساعر وبوغي يعالون، وأخيراً يوآف غالانت وزير الحرب الإسرائيلي، ناهيك بروح الاحتلال الساكنة في منظومتهم الأخلاقية والسلوكية التي تجعلهم دوماً يميلون باتجاه العنف والكراهية في تعاملهم الإنساني كانعكاس طبيعي لممارساتهم الاحتلالية ضد الشعب الفلسطيني.
ولا بد من الإشارة هنا إلى تراجع تأثير الولايات المتحدة الأميركية في فريق نتنياهو، الذي تعالت الأصوات فيه لاعتبارها خصماً سياسياً، الأمر الذي يقطع الطريق عليها لتقديم أي وساطات بين الفريقين.
لقد راهن البعض في “إسرائيل” على موقف “الجيش” الذي يعدّ بوتقة الصهر لجميع الهويات اليهودية الثانوية في داخل هوية إسرائيلية واحدة جامعة، كما أراد ديفيد بن غوريون المؤسس، لكن الأحداث الأخيرة أثبتت أن الخلافات والانشقاقات طالت “الجيش” الإسرائيلي نفسه.
إن حال رفض الخدمة الاحتياطية تمركزت في غالبيتها بين الوحدات العسكرية التي يتألف أغلبها من الطبقة الأشكنازية؛ تلك الوحدات التي ينبغي لأفرادها امتلاك مواصفات علمية وتعليمية وصحية خاصة، مثل سلاح الطيران ووحدة 8200 الاستخبارية، التي تخدم فيها الفئات المجتمعية القوية تعليمياً، وبالأساس اقتصادياً، لكون التعليم الثانوي ليس إجبارياً، ويتطلب تمويلاً من الدولة، وهو مبني على مدى قوة اقتصاد البلدية والمجلس الذي يدير البلدة أو المدينة التي تقع المدرسة الثانوية فيها.
وبالتالي، إن مدارس الطبقة الأشكنازية الثانوية أقوى بمراحل من مدارس الفئات المجتمعية الأخرى، أمثال اليهود الشرقيين والروس الذين يعيشون في بلدات التطوير المهمشة اقتصادياً، الأمر الذي يعلل عدم ملاحظة حالات رفض للخدمة داخل سلاح المشاة أو ألوية جولاني وجفعاتي وكفير، الذين تتألف غالبيهم من الشرقيين والصهيونية الدينية.
أكثر من ذلك، هناك تباين بين موقف القيادة العليا في “الجيش” الإسرائيلي التي تتألف غالبيتها من الأشكناز، والقيادة الوسطى الميدانية التي تتألف غالبيتها من الصهيونية الدينية والشرقيين، ما يجعل أي قرار تدخّل من الجيش ينذر بتفكك حقيقي بداخله.
من الواضح، ولو تم إيقاف الإصلاحات القضائية في ضوء الاحتجاجات الكبيرة إثر إقالة وزير الحرب يوآف غالانت، أن الانقسام الداخلي والصراع لن ينتهيان، وسرعان ما سيجدان أي فرصة أخرى للانفجار من جديد.
وبالتالي، ليس مستبعداً أن يشهد العقد الثامن من عمر “إسرائيل” تغيرات دراماتيكية تؤسس لانقسامها إلى مملكة “إسرائيل” الأشكنازية ومملكة المتدينين واليمين (يهودا)، وأن تتحقق نبوءة العقد الثامن مجدداً.