من جوهانسبرغ إلى نيودلهي.. الاقتصاد العالمي إلى أين؟
صحيفة الوطن السورية-
محمد نادر العمري:
على الرغم مما سعت إليه الولايات المتحدة الأميركية في استثمار غياب كل من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ عن اجتماعات قمة العشرين التي أقيمت مؤخراً في الهند، لتحقيق إستراتيجيتها بالحفاظ على قوة وتماسك المؤسسات الليبرالية الغربية ومحاولة احتواء أي تكتلات اقتصادية دولية ومنع توسع نفوذها ووضع العراقيل أمامها، إلا أن قمة نيودلهي لم تسر كما تشتهي سفن إدارة الولايات المتحدة الأميركية الديمقراطية وأشرعة رئيسها جو بايدن، الذي بات على أعتاب الدخول في سباق الانتخابات الرئاسية الأميركية في ظل عدم نجاحه بتعزيز النفوذ الأميركي ضمن أروقة النظام الدولي كقطب أوحد.
إذ سعت الإدارة الأميركية وبالرغم من وجود ما يسمى دول الجنوب، التي لا تشاطر الولايات المتحدة الكثير من مواقفها في قضايا متعددة، مثل جنوب إفريقيا والبرازيل والأرجنتين والهند والسعودية وتركيا، إلى إقناع قادة هذه الدول بأن واشنطن شريك قوي وموثوق فيه ولديه الكثير من الإمكانيات مقارنة بمنافسيه الكبار، وذلك لتحقيق هدفين الأول: عرقلة مسار نمو مجموعة «بريكس» التي استطاعت مؤخراً من تحقيق تقدم ملموس وخرق في قواعد وطبيعة العلاقات الاقتصادية الدولية المناوئة للهيمنة الاقتصادية الغربية، سواء من خلال الاتفاق على زيادة المقدرات المالية لبنك التنمية أو من خلال استقطاب دول جديدة إلى إطارها الخماسي. والثاني: يكمن في إظهار وحدة وتماسك مجموعة العشرين التي تأسست عام 1999 لمواجهة الاضطرابات في الأسواق المالية الدولية خلال الأزمة المالية الآسيوية، وضمت 19 دولة بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، مثلت حينها الاقتصادات الكبرى في العالم التي تساهم بأكثر من 85 بالمئة من إجمالي الناتج العالمي، و75 بالمئة من التجارة العالمية، ولاسيما بعد ازدياد نسبة التحذيرات التي تضمنتها مراكز صنع الاقتصاد الدولي من احتمال انفراط المجموعة، على إثر الخلافات السياسية الناشبة بين دولها، وعدم قدرتها على وضع رؤى لحماية الاقتصاديات الدولية، فضلاً عن انسياب أكثر دولها لمصلحة التحالفات مع الدول الشرقية.
لقد حرص الفريق التفاوضي الأميركي وقبل بدء القمة بقرابة شهر من الزمن وفق ما سربته وسائل الإعلام الأميركية من تحقيق التوافق بين أعضاء المجموعة في القضايا التالية:
أولاً- دعم البنك وصندوق النقد الدوليين وتعزيز دورهما، فقد سعى بايدن لتوظيف قمة العشرين في محاولة لتعزيز كل من مؤسستي البنك وصندوق النقد الدوليين من حيث التوسع في تقديم القروض والمنح للبلدان النامية، وذلك بعد أن تم اختيار أجاي بانغا، الأميركي من أصول هندية، رئيساً للبنك الدولي في حزيران الماضي، بهدف البحث عن خيارات وبدائل لبرامج الإقراض الصينية، بما في ذلك مبادرة «الحزام والطريق» التي أثقلت كاهل بعض الدول في آسيا وإفريقيا بديون لا يمكنها سدادها وفق تصريح وزير الخزانة الأميركي.
هذا التوجه لم يخفه المسؤولون الأميركيون بل على العكس أكّده مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، الذي حث قمة العشرين قبل بدء اجتماعاتها بضرورة مواجهة إستراتيجية الصين بما وصفه إغراق الدول الفقيرة بالديون، ولدعم توجه بايدن لحث باقي دول المجموعة إلى زيادة دعم هاتين المؤسستين، طلب البيت الأبيض من الكونغرس منذ شهرين 3,3 مليارات دولار كتمويل إضافي للبنك الدولي، والذي يقول مسؤولو الإدارة الأميركية «إنه سيولد 25 مليار دولار من قدرة الإقراض الإضافية، فضلاً عن مليار دولار في شكل منح لمواجهة أزمات أفقر البلدان، ومليار دولار لتمويل البنية التحتية العالمية»، هذه الخطوة الاستباقية دفعت سوليفان لأن يطلب من الدول الأخرى زيادة تمويل البنك، وضخ ما مجموعه 100 مليار دولار من قدرات الإقراض الجديدة، والهدف الأميركي من خلال تبني هذه الخطوة كان إيصال رسالة مفادها أن الولايات المتحدة لا تزال القوة الاقتصادية العالمية الأكبر، وأن التحالف العالمي الذي تقوده واشنطن هو الأذكى والأفضل لأي حليف محتمل، وأن الصين تبدو كشريك أقل ثقة به للبلدان النامية، خاصة في ضوء تقارير تشير إلى تراجع النمو الاقتصادي وارتفاع مستويات البطالة في بكين.
ثانياً- تبني موقف موحد بشأن أوكرانيا لزيادة الضغط على روسيا، ومسارعة واشنطن لاستغلال غياب الرئيس بوتين عن القمة، لدفع دول مجموعة العشرين بتبني موقف تدين من خلاله بشكل واضح وموحد ما تسميه واشنطن «حرب روسيا على أوكرانيا» بذريعة الآثار الناجمة عن هذه الأزمة على البلدان النامية من خلال قضايا أمن الغذاء والطاقة، باء بالفشل، بل الأكثر من ذلك أن البيان الختامي الذي تضمن نصاً توافقياً، وتطلب أكثر من 200 ساعة من المفاوضات المتواصلة، و300 اجتماع ثنائي، لم يدن روسيا بل دعا لعدم «استخدام القوة»، الأمر الذي انتقدته كييف بالقول: «ليس هناك ما يدعو مجموعة العشرين إلى الاعتزاز»، ووصفه وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف بالفوز الدبلوماسي.
هذا الفوز الدبلوماسي لروسيا تعزز مع تأكيد الرئيس البرازيلي لويس دا سيلفا الذي تستضيف بلاده القمة المقبلة، أن الرئيس بوتين سيتلقى دعوة لزيارة البرازيل، مؤكداً أنه لن يتم القبض عليه، على الرغم من مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية في آذار، والتي تتهمه بارتكاب جرائم حرب، وربما هذا هو السبب الأبرز لعدم انتظار الرئيس الأميركي جو بايدن حتى انتهاء القمة لزيارة فيتنام، وفق ما أعلنته وكالة «Press Trust of India» للأنباء، التي أكدت بأن بايدن، أنهى مشاركته في قمة العشرين، قبل الموعد المحدد له.
ثالثاً- احتكار المركزية الاقتصادية الدولية لدى الغرب، فمنذ عقدين على الأقل سارعت الولايات المتحدة الأميركية لاتهام الدول الصاعدة وخاصة الصين، بأنها تسعى لإحداث خلل في النظام الدولي، داعية دول ما يسمى المجتمع الدولي لعدم التعامل مع الصين وعدم إبداء الثقة بالتعامل معها، إلا أن التوجه الأميركي باحتكار المركزية في صنع السياسات الاقتصادية الدولية والتحكم بآلياتها المؤسسية والنقدية، لم يعد صالحاً، وخاصة مع قبول عضوية الاتحاد الإفريقي رسمياً داخل مجموعة العشرين، الأمر الذي يعكس تطورين مهمين، الأول تزايد أهمية التعبير عن مصالح الاقتصادات النامية في الجنوب العالمي عبر دولها أو ممثلين واقعين عنها، أما التطور الثاني يتجلى بكسر احتكار دول الغرب إدارة الاقتصاديات العالمية.
خلال أقل من شهر وخاصة من جوهانسبورغ الجنوب إفريقية إلى نيودلهي الهندية، شهد النظام الدولي ما يمكن تسميته تطورات لافتة، من شأنها أن تسهم في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الدول بتأثير أقل من المؤسسات الرأسمالية المهيمنة، وهذان التطوران بطبيعة الحال سيكون لهما صدى سلبي على وقع الانتخابات الرئاسية الأميركية بالنسبة للرئيس بايدن.