ملف «كاميرات بيروت»: الكلمة للمصالح والضغوط السياسية
ـ الاخبار:
محمد وهبة
لماذا يماطل ديوان المحاسبة في إبداء رأيه في ملف تلزيم «كاميرات المراقبة ضمن نطاق بلدية بيروت»؟ هل يحتاج الديوان إلى مهلة إضافية لإصدار رأيه القانوني ــ المالي، أم إلى مهلة لتمرير الملف سياسياً؟ وفق المعطيات التي جمعتها الغرفة المعنيّة في الديوان، فإن المخالفات في هذا الملف كافية لإبداء الرأي «السلبي» فيه، لكن يبدو أن القرار «سياسي بامتياز». قبل نحو عشرة أيام، تلقّى ديوان المحاسبة ملفاً آتياً من بلدية بيروت، تطلب فيه الموافقة على تلزيم تركيب كاميرات مراقبة في بيروت وإنشاء غرفتي تحكّم بقيمة إجمالية تبلغ 61 مليار ليرة، أي نحو 40.5 مليون دولار. وقد وصف قضاة في الديوان، الملف، بأنه «ضخم» و«كبير جداً» ويتطلب أياماً عديدة لدراسته وإبداء الرأي في مدى مطابقته للأنظمة والقوانين المرعية، فضلاً عن أنه أتى مرفقاً بتحفّظ عدد من أعضاء بلدية بيروت على الصفقة. ووفق تفاصيل الملف، فإن عملية التلزيم نُفذت بطريقة استدراج العروض المحصور المبنية على دراسة أجراها مكتب «دار الهندسة» من أجل وضع دفتر الشروط. وبرغم أن دفتر الشروط عام جداً ولم يتطرق إلى أي تفاصيل، إلا أن دراسة المكتب حدّدت خمس شركات فقط للمشاركة في الاستدراج، مصنّفة إياها بأنها وحدها الصالحة والمخوّلة المشاركة في عملية التلزيم المحصورة بينها. ما أثار استغراب عدد من أعضاء البلدية، أن دفتر الشروط لم يتضمن أي مواصفات تفصيلية، كما أنه لم يُعرض أصلاً على أعضاء المجلس البلدي، بل اطلع عليه أعضاء المجلس بعد تنفيذ استدراج العروض المحصور الذي عرضت نتائجه على المجلس البلدي في جلسة عقدت قبل نحو أسبوعين. المهم، أن خمس شركات شاركت في استدراج العروض المحصور، وهي: هايكون، انجينيرينغ كونتراكتينغ غروب، مخلوف، غوارديا، جلخ. أما بالنسبة إلى عدد الكاميرات المطلوب تركيبها، فيبلغ 2000 كاميرا، منها نحو 200 كاميرا تعمل وفق نظام التتبع، واضافة إلى شراء الكاميرات وتركيبها، فإن المناقصة تتضمن إنشاء غرفتين للتحكّم في كامل تجهيزاتها، ستوضع الأولى بتصرّف بلدية بيروت، والثانية بتصرف قوى الأمن الداخلي. عندما انتشر خبر فوز «غوارديا» بتلزيم تركيب كاميرات المراقبة في بيروت وإنشاء غرف التحكّم، أبدى عدد من الشركات التي لم تُدع إلى المشاركة في «استدراج العروض المحصور» اعتراضه على عملية التلزيم، ولا سيما أنها عرضت منتجاتها وخدماتها، بطلب من بلدية بيروت، وعلى أمل الاشتراك في المناقصة بعد تحديد موعدها، إلا أنها لم تتبلغ من البلدية موعد المناقصة. فوز غوارديا، والملابسات التي رافقت هذا الملف لجهة طريقة التلزيم، أثارا انتباه عدد من أعضاء البلدية الذين أبدوا رفضهم لطريقة عمل رئيس البلدية بلال حمد، ووضعوا علامات استفهام حول التلزيم، وخصوصاً أن حمد كانت لديه مشاكل متفاقمة مع باقي الأعضاء المحسوبين على فريقه من تيار المستقبل، لكن هذا التلزيم جاء ليعيد جمع أعضاء الفريق الواحد… أما اعتراض المعارضين، فقد دفع حمد إلى إصدار بيان يحدّد فيه موعداً لمؤتمر صحافي يخصصه لموضوع تلزيم الكاميرات، لكن صباح اليوم المقرّر تبلّغ الصحافيون إلغاء المؤتمر. بعد ذلك، حدّد حمد موعداً ثانياً لمؤتمر صحافي… ثم ألغاه أيضاً!
إزاء هذا الوضع، يشتبه بعض أعضاء البلدية في أن هناك من «حيّك» «القميص» على قياس شركات معيّنة، مشيرين إلى أنه «حتى لو كانت المناقصة مفتوحة، فما كانت أي شركة لتفوز إلا غوارديا، لأن دفتر الشروط أعدّ لكي تحصل هي على المشروع دون سواها». ويفضّل هؤلاء الأعضاء الابتعاد عن الغوص في مسألة الشركة بحدّ ذاتها وفي تفاصيل ما جرى، بسبب الحاجة الماسّة إلى تركيب الكاميرات بأسرع وقت ممكن، وخصوصاً أن الاستعجال في إقرار الملف جاء تحت عنوان «الوضع الأمني». وتشير ملكية غوارديا إلى أنها مملوكة بصورة أساسية من أبناء أحد القضاة والنواب وبعض رجال الأعمال المعروفين في طرابلس وبيروت، مثل عدنان سمير الجسر، ومروان صقر صقر، وزياد طارق منلا، وطارق طارق منلا، بشارة شفيق العماطوري…
بعد سلسلة الأحداث هذه، عقد مجلس بلدية بيروت اجتماعاً خصصه لدراسة نتائج استدراج العروض المحصور «والموافقة على القيمة الأدنى للشركات المشاركة». ثم أحيل الملف على مساره الإداري ليصل لاحقاً إلى ديوان المحاسبة. هناك، كشف مسار الأمور عن مفاجأة مزدوجة؛ فالملف حضر وحضرت معه مجموعة من الاتصالات السياسية والداعمين للملف والمعارضين له.
وبحسب مصادر متابعة، فإن الملف الذي يلاحقه حمد يومياً في الديوان، مطلوب بشدّة من فرع المعلومات. وهذا الملف أيضاً، مرفوض بشدّة من حزب الله. ولكلّ أسبابه في هذا المجال.
أما الوجه الثاني للمفاجأة، فهو يتعلق بطبيعة الملف والمخالفات التي تكمن بين سطوره. ففي تقرير مبدئي لأحد المهندسين، الذين أطلعهم الديوان على الملف لاستمزاج رأيهم فيه، اكّد الخبير أن دراسة المشروع تكاد تكون «فارغة»، فالمذكور فيها هو عبارة عن بنود لا يمكن اعتبارها مواصفات، بل هي عبارة عن حاجات يجب أن توضع لها مواصفات. فعلى سبيل المثال، هناك 300 مولّد لهذا المشروع، لكن لا يذكر دفتر الشروط أي مواصفات لهذه المولدات ولا حجمها ولا قدرتها… واللافت أن دراسة شركة دار الهندسة تذكر أنها دراسة غير نهائية. كذلك، تبيّن أن إجراءات التلزيم غير مطابقة للقوانين المرعية الإجراء، وهو أمر اطلعت عليه الغرفة المعنية في الديوان.
كل هذه العناصر المالية والقانونية والسياسية، تداخلت مع بعضها بعضاً لتنتج «وجع راس كبيرا» للقاضي المسؤول عن الغرفة، التي تدرس الملف، لكن رئيس الديوان بالوكالة عبد الرضى ناصر، قرّر ألا يدخل في عملية حسم للخيارات في انتظار قرار سياسي يتبلغه، وبرغم أنه أبدى في اتصال مع «الأخبار» رغبته في التريّث لإقرار الملف، مشيراً إلى أن الملف «في مساره النظامي وأن للجميع الحق في إبداء رأيهم فيه، لكنه ملف ضخم ويستحق أن يأخذ وقته كاملاً»، إلا أنه في الواقع قرّر الاحتفاظ بالملف بجاروره ودرسه بالشراكة مع الغرفة المعنية. فلماذا ينتظر ناصر كل هذا الوقت لإبداء رأي الديوان في الملف؟ فلو كان يريد حسم الأمر وفق المنحى القانوني ــ المالي، لكان قد عمد إلى تكليف خبير لدراسة الملف والاطلاع على النصوص القانونية للمناقصة. وبحسب مصدر متابع، فإن ناصر ينتظر من الشركة الفائزة أن ترسل كتاباً لخفض الأسعار من أجل إرساء الملف عليها، لكن من يحمي القوانين من الانهيار والفساد السياسي؟ أليست هذه مهمة الديوان؟